DW- عربية-
في سابقة غير مألوفة عبّر ترامب عن طمعه بالحصول على تريليونات السعودية مقابل ضمان أمنها. ومع أن المملكة ردت بأنها لن تدفع، فمن الصعب عليها تجاهل مطلب الرئيس. ولكن ماذا سيحدث لاقتصاد السعودية في حال الاستجابة لشراهة ترامب؟.
أية لغة هذه التي يستخدمها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لابتزاز المملكة السعودية! كان من المفترض بالرئيس ترامب في جولته الانتخابية الأخيرة أن يتحدث أمام ناخبيه عما حققه حتى الآن من وعوده في مجال إعادة إحياء الصناعة والبنية التحتية التي تؤمن لهم فرص العمل والضمانات الاجتماعية المفقودة. غير أن الرئيس المتعجرف تناسى وعوده ليستبدلها بفكرة جهنمية جديدة عبّر من خلالها بعنجهية تثير الخجل عن طمعه في الاستحواذ على "تريليونات" السعودية على أساس أن نظام الحكم فيها لن يصمد بدون الحماية الأمريكية: "نحن نحمي السعودية، أنا أحب الملك سلمان، ولكنني قلت له نحن نحميك، ربما لن تتمكن من البقاء لمدة أسبوعين دوننا، عليك أن تدفع لجيشنا". هذا من جملة ما قاله ترامب في معرض ابتزازه المتكرر للمملكة وإهانته لها بعد تصريحات قال فيها: "أيها الملك لديك تريليونات ومن دوننا الله وحده يعلم ماذا سيحدث للسعودية، .. ربما لا تكون قادراً على الاحتفاظ بطائرتك، لأن السعودية قد تتعرض لهجوم..". ورغم أن وليد العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رد في مقابلة مع وكالة "بلومبيرغ" على ترامب بأن بلاده "لن تدفع أي شيء مقابل أمنها في الوقت الحاضر"، فإن إصرار ترامب ومطالبه المتكررة توحي بأنه عازم على الحصول إلى ما يبغيه.
طلبات شبه مستحيلة
يعرف القاصي والداني أن الولايات المتحدة في مقدمة دول العالم التي تخضع فيها السياسة للمصلحة. وعليه فإنها لا تنشر قواعدها العسكرية وتقدم خدماتها الأمنية لحماية السعودية أو غيرها إذا لم تجنِ جراء ذلك عوائد مالية تزيد على تكلفة هذا القواعد واستمرارها. أما الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة من السعودية فأكثر من أن تُعد، ولعل التذكير هنا بصفقات تصل قيمتها إلى أكثر من 400 مليار دولار وقعها ترامب مع المملكة خلال العامين الماضيين خير دليل على ذلك. وتشكل قيمة الصفقات العسكرية أكثر من ثلث هذا المبلغ. غير أن الخطورة هنا تكمن في أن لعاب ترامب يسيل هذه المرة إلى ما هو أكبر من هذه الصفقات. فهو يطالب المملكة بدفع تكاليف الحماية الأمنية، ما يعني دفع تكاليف سنوية طائلة إلى أجل غير مسمى، لكن السؤال من أين للسعودية بذلك، وماذا سيحدث في حال استجابت لشراهته؟
بين فكي كماشة
تبدو السعودية حالياً في أزمة سيولة للوفاء بمتطلبات عجز الموازنة وتغطية تكاليف الصفقات الخارجية والحرب اليمنية، وهو الأمر الذي يفسر لجوءها المتزايد مؤخراً إلى الاقتراض الخارجي والداخلي بشكل متزايد منذ بداية الصيف الفائت. ومع تأجيل طرح بيع أجزاء من شركة "أرامكو" عبر البورصة سوف تلجأ إلى اقتراض المزيد من المليارات أولاً وبيع مؤسسات تابعة للدولة أو جزء منها لاحقاً. وفيما عدا ذلك لا يمكنها الالتزام بتنفيذ المشاريع الهادفة إلى تحديث اقتصاد المملكة والتخلص من التبعية للنفط في إطار "رؤية السعودية 2030". أما في حال استجابتها لمطالب الرئيس الأمريكي فإن ذلك يعني شطب هذه المشاريع وتعطيل تنفيذ الرؤية التي ينبغي أن تمهد الطريق لتحديث المملكة وتولى وليد العهد الشاب محمد بن سلمان مقاليد الحكم فيها. وعلى ضوء ذلك تبدو السعودية بين فكي كماشة لا أحد يعرف كيف بإمكانها الخروج من قبضتها، فعدم الوفاء بمطالب ترامب يعني تعريض الوضع الأمني ونظام الحكم السعودي لعدم الاستقرار، لأن استقرار الخليج بيد الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية المنتشرة هناك. وبالمقابل فإن تلبية شراهة الرئيس تعني قطع الطريق على خطة تنفيذ برامج التنمية الحيوية لنقل المملكة إلى ما بعد الحقبة النفطية التي يتوقع أن غروب شمسها خلال العقدين القادمين. وفي حال تعطّل تنفيذ الخطة، فإن كارثة ستحل باقتصاد السعودية الذي يعتمد حالياً على مادة أولية ناضبة هي النفط بنسبة تزيد على 80 بالمائة.
هل تصبح "رؤية 2030 السعودية" في مهب الريح إذا أصر ترامب على تحقيق مطالبه بالحصول على المزيد من المال؟
ما العمل؟
بالتوازي مع تزايد ضغط ترامب على السعودية وابتزازه له بالوعيد والتهديد والإهانات المتكررة تحاول الأخيرة تغيير وجهتها شرقاً بشكل لافت من خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الصين وروسيا ودول أخرى في جنوب شرق آسيا. وفي هذا الإطار تعمل المملكة على تعزيز علاقاتها مع الصين كأول شريك تجاري لها وأكبر مستورد للنفط السعودي. وقد نجح تعزيز التعاون الروسي السعودي في تحسين أسعار النفط الخام من نحو 50 إلى حوالي 80 دولار للبرميل خلال العامين الماضيين.
وتبدو أسواق الذهب الأسود اليوم مرتبطة بالتنسيق الحاصل بين موسكو والرياض أكثر من ارتباطها بالتنسيق بين أعضاء منظمة أوبك. لكن السؤال: هل تترك إدارة ترامب للرياض حرية السير في هذا الاتجاه، لاسيما وأن ذلك يهدد هيمنتها الأمنية على الخليج ونفوذها الاقتصادي العالمي المعتمد على سطوة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية إلى حد كبير؟ ومن المعروف أن هذه السطوة ما كانت لتحصل يوماً بهذا الشكل لولا التزام السعودية ودول الخليج الأخرى ببيع نفطها حصريا ًبالدولار الأمريكي منذ سبعينات القرن الماضي.
خطر الكارثة
تجد السعودية نفسها مضطرة للتوجه شرقاً نحو بكين وموسكو ودول أخرى بشكل متزايد كلما زاد ابتزاز الرئيس الأمريكي وضغطه عليها. ويزيد من هذه الضرورة تحول الولايات المتحدة بشكل سريع من مستورد للنفط إلى بائع له وللغاز المسال، ما يعني تقليص اعتمادها على نفط الخليج. وتفيد الإدارة الفدرالية الأمريكية المسؤولة عن تجميع بيانات الطاقة أن الإنتاج الأمريكي من النفط زاد على مثيله الروسي والسعودي خلال الصيف الماضي ووصل إلى عتبة 11 مليون برميل يومياً في أغسطس/ آب الماضي. وتقدر منظمة الطاقة الدولية أن الولايات المتحدة ستنتج المزيد من الملايين من براميل النفط الصخري الإضافية في غضون السنوات القليلة القادمة. كما ستنتج المزيد من تريليونات الغاز الصخري المعدة للتصدير والإنتاج إلى ازدياد.
ومما يعنيه ذلك أن الولايات المتحدة التي تكافح اليوم لفرض بيع غازها في السوق الأوروبية على حساب الغاز الروسي، ستكافح لاحقاً لبيع نفطها في أسواق النفط السعودي الأوروبية منها والآسيوية. وعندها سوف تتحول السعودية من شريك وصديق إلى منافس ينبغي إقصائه من الأسواق النفطية التي تسعى واشنطن لدخولها. ويشهد التاريخ كيف تقصي الولايات المتحدة أصدقائها وشركائها من المنافسة وتعاقبهم عندما يتعارض ذلك مع مصالحها. ولعل الحرب التجارية التي يخوضها ترامب حالياً ضد الجميع خير مثال على ذلك. ومما لا شكل فيه أن السعودية لن تكون استثناء من ذلك. بالنسبة للأخيرة إذا حصل الإقصاء قبل التخلص من التبعية للنفط والبترودلار، فإن كارثة أو مهلكة اقتصادية قادمة ستحل بالسعودية والدول العربية النفطية الأخرى التي لها علاقات مشابهة مع واشنطن.