صباح نعوش- البيت الخليجي-
رغم تحسن أسعار النفط سجل الميزان الجاري بما فيه الميزان التجاري في البحرين عجزاً في السنتين الماضيتين. ولا تزال المشكلة قائمة إلى الآن. حالة نادرة في بلد خليجي يترتب عليها نتائج تجارية ومالية ونقدية خطيرة.
في عام 2014 سجل الميزان الجاري (حاصل جمع الميزان التجاري وحساب الخدمات وحساب الدخول الأساسية والثانوية) فائضاً مهماً قدره 1517 مليون دولار بسبب النتائج الإيجابية للميزان التجاري بالدرجة الأولى. فقد تحسنت الصادرات السلعية خاصة المبيعات النفطية. أدى هذا الوضع إلى زيادة الاحتياطي النقدي. وبذلك لا يختلف وضع الميزان الجاري في البحرين مقارنة ببلدان الخليج الأخرى.
وفي عام 2015 حدث تطور جديد. فقد هبطت الصادرات النفطية لتصل إلى 7711 مليون دولار أي بنسبة 46.6% قياساً بالعام السابق. الأمر الذي قاد إلى تقليص الواردات السلعية ولكن بنسبة وبحجم أقل بكثير من حجم انخفاض حصيلة الصادرات. أدى ذلك إلى حدوث حالة نادرة الوقوع في دول مجلس التعاون وهي عجز الميزان الجاري البالغ 749 مليون دولار. واستمرت هذه النتيجة السلبية في عام 2016 حيث تضاعف حجم العجز. وسجل عام 2017 زيادة أخرى في العجز. واستمرت هذه الحالة في الفصلين الأول والثاني من العام الجاري 2018.
لماذا حدث هذا الاختلال وما هي نتائجه؟
أسباب الاختلال
1- عجز الميزان التجاري
يعتمد الميزان التجاري اعتماداً أساسياً على الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من نصف الصادرات الكلية للبلد. ومن المعلوم أن العوائد النفطية تعتمد على مؤشرين هما مستوى الأسعار وحجم الإنتاج. لكن خصوصيات البحرين لا تتوقف عن هذين المؤشرين بل ترتبط بقرارات سعودية.
تحصل الدولة على العوائد من مصدرين. حقل البحرين الذي ينتج 50 ألف برميل في اليوم. و حقل أبو سعفة الذي ينتج 300 ألف برميل يوميًا يوزع مناصفة بين السعودية والبحرين. وهذا الحقل “المشترك” لا يقع في منطقة محايدة أو مشتركة بل في منطقة تابعة للسيادة السعودية نتيجة تنازل البحرين عن منطقة فيشت أبو سعفة بمقتضى اتفاقية عام 1958. فقد نصت مادتها الثانية على ما يلي: “أن تقاسم الإيراد النفطي بين الحكومتين لا يمس ما للحكومة العربية السعودية من حق السيادة والإدارة على هذه المنطقة”.
ويعود للسعودية تقدير المبلغ المستحق للبحرين. وقد يكون أعلى من النصف حسب الأحوال الاقتصادية والسياسية. بمعنى أن الصادرات النفطية البحرينية وبالتالي حالة الميزان التجاري تتوقف على السعودية.
ومن زاوية أخرى برزت في البحرين حالة جديدة منذ عام 2016 لا تحدث عادة في دول الخليج وهي عجز الميزان التجاري الذي بلغ 801 مليون دولار. وفي عام 2017 تحسنت الصادرات النفطية حيث ازدادت بنسبة 38.3% مقارنة بالعام السابق. جاءت هذه الزيادة نتيجة تحسن أسعار الخام في السوق العالمية. بيد أن الواردات المدنية والعسكرية ارتفعت ارتفاعاً كبيراً وبنسبة 17.3% مقارنة بالعام السابق. وعلى الرغم من ارتفاع الصادرات بمعدل يفوق ارتفاع الواردات إلا أن عجز الميزان التجاري لم ينخفض إلا بنسبة متدنية.
2- تزايد ترحيل أرباح الاستثمارات الأجنبية
يعاني حساب الدخل الأساسي من عجز لأن الأرباح المحولة إلى الخارج أعلى بكثير من الأرباح المتجهة إلى الداخل. كما ترتفع سنوياً أرباح الاستثمارات الأجنبية في حين تعاني الأرباح البحرينية من ركود. ففي عام 2017 بلغت أرباح الاستثمارات الأجنبية 4087 مليون دولار. في حين لا تتجاوز أرباح الاستثمارات البحرينية 2105 مليون دولار. بمعنى أن معدل التغطية يقل عن 52%. الأمر الذي يسهم مساهمة كبيرة في تردي الوضع المالي للبلد. كما يشير تطور هذا الحساب خلال السنوات الأربع المنصرمة إلى تزايد ترحيل الاستثمارات الأجنبية بمعدل سنوي قدره 2.9%. في حين تتسم أرباح الاستثمارات البحرينية بالركود بل هبطت في الآونة الأخيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن البحرين هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تعاني من عجز حساب الدخل الأساسي.
3- ارتفاع تحويلات العمال الأجانب
في منتصف عام 2018 بلغ عدد العمال الأجانب في البحرين 601 ألف شخص أي حوالي أربعة أضعاف العمال البحرينيين.
تتجه تحويلات العمال الأجانب (الجانب المدين في حساب الدخل الثانوي) نحو الارتفاع سنوياً. في حين تكاد تكون تحويلات العمال البحرينيين في الخارج (الدائن) منعدمة. وهكذا بلغ صافي التحويلات من البحرين 2457 مليون دولار في عام 2017 أي بزيادة قدرها 3.1% مقارنة بالعام السابق. يمثل هذا المبلغ عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة الخارجية لأنه يمتص 29% من الصادرات النفطية. في حين لا تتجاوز تحويلات العمال الأجانب 15% من الصادرات النفطية في السعودية و6% من الصادرات النفطية في الكويت.
يعادل المبلغ المحول من البحرين ثلاثة أرباع المرتبات والأجور التي يحصل عليها العمال الأجانب. بمعنى إنهم يكتفون بربع هذا المبلغ للعيش في البحرين. وهذا أمر غير ممكن. ويبدو أيضاً أنهم يحولون مبالغ أخرى غير مذكورة في الميزان الجاري لأنها ببساطة لا تمر عبر القنوات المصرفية. وعلى هذا الأساس هنالك قناعة لدى البحرينيين بأن ما يصرح به العامل الأجنبي من أجور لا يمثل دخله الحقيقي. له إذن مصادر معيشية أخرى. وهذه مشكلة لا تقتصر على البحرين بل تشمل جميع دول مجلس التعاون. لذلك يقترح بعض النواب فرض رسوم على هذه التحويلات والتي يمكنها دعم الميزانية بمبلغ 90 مليون دينار سنوياً. لكن الجهات التنفيذية وفي مقدمتها السلطات النقدية تعترض على هذا الاقتراح لأنه بتقديرها يتناقض مع السياسة التجارية المتحررة للبلد. ناهيك عن أنه يفضي بالضرورة إلى تزايد التحويلات غير القانونية.
وحتى على افتراض أن المبالغ المحولة فعلاً تعادل المبالغ التي تمر عبر المصارف فأن حجم التحويلات يمارس ضغطاً على مالية البحرين أشد من ذلك الذي يمارسه على مالية دول مجلس التعاون الأخرى.
تداعيات الاختلال
1- تفاقم الديون العامة
نتيجة العجز المزمن في الميزانية العامة وعجز الميزان الجاري تضطر الدولة إلى الاقتراض من السوق المحلية ومن الخارج. أفضى الاعتماد المتزايد على هذا التمويل إلى ارتفاع حجم المديونية العامة خلال فترة قصيرة من الزمن. فقد انتقل من 1415 مليون دولار في عام 2014 إلى 31108 مليون دولار في سبتمبر 2018 (إحصاءات المصرف المركزي). خلال هذه الفترة ارتفع الدين العام إلى أكثر من الضعف حتى أصبح يعادل 88% من الناتج المحلي الإجمالي.
يترتب على ذلك تداعيات سلبية عديدة منها ارتفاع الفوائد المترتبة عليها فتضعف المقدرة المالية للدولة ويتدهور مستوى معيشة المواطنين. كما وصل الحال إلى الاقتراض من أجل سداد الديون القديمة وليس فقط من أجل تغطية العجز المالي والتجاري. ناهيك عن تأجيل مشاريع استثمارية إلى أجل غير مسمى مما أدى إلى تعطل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخفضت جميع الوكالات الدولية المتخصصة الترتيب الائتماني للبحرين. ولعبت المساعدات الخليجية دوراً بارزاً في تفادي تدهور أكبر لهذا الترتيب.
2- هبوط الاحتياطي النقدي
انتقل حجم الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي من 5736 مليون دولار في عام 2014 إلى 1481 مليون دولار في سبتمبر 2018. كان يغطي واردات سلعية لمدة 115 يوما ثم أصبح لا يغطي سوى 34 يوما. علماً بأن صندوق النقد الدولي ينصح البلدان النامية ببذل الجهود في سبيل أن لا تقل مدة التغطية عن تسعين يوماً.
يترتب على هذا الوضع تدني مقدرة الدولة على التمويل. كما يصبح الحفاظ على سعر صرف الدينار امراً صعباً لأن الاحتياطي النقدي هو الأداة الرئيسية للدفاع عن الدينار. تليها أسعار الفائدة. عندئذ لا توجد وسيلة أخرى للحفاظ على سعر الصرف الثابت سوى الحصول على المساعدات الخليجية.
3- الاعتماد على المساعدات الخليجية
نتيجة عجز الميزان التجاري وارتفاع المديونية العامة وتزايد الإنفاق العسكري والأمني وتراجع الاحتياطي النقدي لا تجد البحرين بداً من اللجوء إلى المساعدات الخليجية الممنوحة من قبل السعودية والإمارات والكويت.
تشير التقارير إلى خطة خليجية جديدة لمدة خمس سنوات تتضمن تقديم مساعدات للبحرين بقيمة إجمالية قدرها عشرة مليارات دولار. أي يصل المعدل السنوي إلى ملياري دولار. وقد استلمت المنامة الدفعة الأولى مؤخراً. وستتبعها الدفعات الأخرى في نهاية كل سنة لتدخل في ميزانية السنة اللاحقة: مساعدات نهاية عام 2018 ستقرر في ميزانية عام 2019 وهكذا.
من الناحية المبدئية المساعدات المالية ليست بالضرورة هبات مجانية. بل أن المساعدة –وفق المفهوم المتعارف عليه دولياً- قروض بشروط ميسرة ترتبط بانخفاض أسعار الفائدة وارتفاع فترة السداد.
الدول المانحة مقتنعة تماماً بأن هذه المساعدات حتى وإن كانت بدون فوائد لن تعالج الأزمة المالية والتجارية البحرينية إلا بعد إجراء إصلاحات جوهرية وحقيقية وشاملة. وهذا أيضاً رأي صندوق النقد الدولي. وعلى هذا الأساس باتت المساعدات الخليجية تمنح وفق برنامج يتضمن شروطاً تهدف إلى إعادة التوازن إلى الميزانية العامة بحلول عام 2022. لكن الدول المانحة تتساهل كثيراً مع البحرين في تطبيق هذا البرنامج لسببين على الأقل: السبب الأول نقدي. تمنح المساعدات لدعم سعر صرف الدينار. وبدونها تهبط قيمته التعادلية مقابل الدولار وقد تضطر الدولة إلى التخلي عن نظام الصرف الثابت لتتبنى سياسة التعويم. وهذا يشكل خطراً على السياسات النقدية لدول الخليج.
السبب الثاني سياسي. المساعدات ضرورية لدعم الاقتصاد وبالتالي تفويت الفرصة أمام المعارضة البحرينية.
إن استمرار العجز التجاري حالة خطيرة في اقتصاد يعتمد في صادراته على النفط. كما تعاني حسابات الميزان الجاري من خلل واضح. ولم يعد بالإمكان التصدي لهذه الأزمة إلا بإجراء إصلاحات شاملة ترتبط بالميزانية العامة وبجميع مفردات ميزان المدفوعات خاصة الميزان الجاري.