صباح نعوش- البيت الخليجي-
تخفض السعودية إنتاجها النفطي بواقع 500 ألف ب/ي اعتباراً من مطلع الشهر القادم. أربعة أسباب تفسر هذا القرار: العجز المالي وخصخصة آرامكو وضعف فاعلية الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية ضد إيران وهبوط أسعار الخام.
دعم الميزانية العامة
تسعى السعودية إلى رفع الأسعار عن طريق خفض الإنتاج بهدف الحصول على إيرادات أكبر لسد العجز المزمن والهائل في ميزانية الدولة.
فالنفقات العامة تتجه نحو الصعود المستمر: من 926 مليار ريال في عام 2017 وإلى 1030 مليار ريال في عام 2018 ثم إلى 1106 مليارات ريال في عام 2019. وتحتل المصروفات العسكرية والأمنية مركز الصدارة حيث بلغت 311 مليار ريال (هذا المبلغ مذكور في وثيقة صادرة عن وزارة المالية السعودية) أي 30.1% من النفقات العامة. ومن خلال إحصاءات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام يتبين بأن المصروفات العسكرية السعودية تساوي 80.5 مليار دولار. أي أكثر من النفقات العسكرية الفرنسية وتعادل تقريباً الاعتمادات العسكرية الروسية.
أجرينا الحسابات التالية لتوضيح علاقة النفقات العسكرية والأمنية بالإنتاج النفطي. تبلغ هذه النفقات 227 مليون دولار في اليوم. فإذا كان سعر البرميل 85.3 دولاراً (حالة السوق في 1 أكتوبر 2018) فعلى السعودية تصدير 2.6 ملايين ب/ي لتغطية هذه النفقات. أما إذا هبطت الأسعار إلى 67.3 دولاراً للبرميل (حالة السوق في 16 نوفمبر 2018) فيجب تصدير 3.3 ملايين ب/ي لسداد هذه النفقات. وبعملية حسابية بسيطة نستنتج بأن الدولة تخسر 17 مليار دولار في السنة ليس بسبب ارتفاع أسعار الأسلحة المستوردة أو شراء كميات أكبر بل بسبب هبوط أسعار النفط. وهذا سبب أساسي يدعو السعودية إلى تخفيض إنتاجها النفطي.
يستوجب الارتفاع المستمر للمصروفات العامة خاصة العسكرية والأمنية أن تبذل الدولة جهوداً في سبيل الحصول على إيرادات متزايدة. ثلث إيرادات الدولة يأتي من الضرائب والرسوم ومساهمة صناديقها السيادية. من الصعب جداً زيادة هذه الإيرادات لأسباب اقتصادية واجتماعية. لذلك لا مناص من الاعتماد على الإيرادات النفطية. ويتم ذلك عبر تحسين مستوى الأسعار أي خفض الإنتاج حسب أحوال السوق.
ومن زاوية أخرى تعاني الميزانية العامة من عجز قدره 148 مليار ريال في عام 2018. لتغطيته تلجأ الدولة عادة إلى القروض مما أدى إلى ارتفاع مستمر للديون العامة التي انتقلت من 438 مليار ريال في عام 2017 إلى 576 مليار ريال في عام 2018. ولا يمكن إيقاف هذه الزيادة إلا بتقليص العجز المالي. وبسبب صعوبة الحد من تزايد الإنفاق العام من الناحيتين الاقتصادية والسياسية بات من اللازم تحسين الإيراد العام أي رفع أسعار النفط بتقليص الإنتاج.
خصخصة آرامكو
نتيجة العجز المالي قررت السعودية خصخصة جزئية لشركتها العملاقة آرامكو، أكبر شركة في العالم. وضعت هذه العملية في إطار برنامج اقتصادي إصلاحي (رؤية المملكة 2030) الذي يشرف عليه أحد كبار المسؤولين السعوديين. من المؤمل بيع 5% من أسهمها والحصول على مبلغ قدره مائة مليار دولار. بمعنى أن قيمة آرامكو ترليوني دولار. تم الإعلان عن هذه القيمة من قبل المسؤول المباشر عن الإصلاح الاقتصادي. أما ما تردد في التقارير والدراسات ووسائل الإعلام المختلفة فما هو إلا نقل عن تصريح هذا المسؤول.
ولكن ظهرت أيضاً تقديرات أخرى بقيم أقل بكثير من هذا المبلغ. ناهيك عن المشاكل العديدة المرتبطة بإدراج الشركة في الأسواق المالية العالمية المعروفة خاصة بورصة نيويورك وبورصة لندن.
ومن المتفق عليه أن قيم الشركات النفطية تعتمد اعتماداً أساسياً على أسعار النفط. كلما زادت الأسعار ارتفعت القيمة والعكس بالعكس. وعلى هذا الأساس لابد للسعودية من تخفيض الإنتاج لرفع الأسعار. أما إذا هبطت نتيجة عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة فسوف تفشل خصخصة آرامكو. الأمر الذي يعني إخفاق السياسة الإصلاحية الذي سيترجم بعدم صلاحية إدارة هذه السياسة.
يتأتى تأخر إدراج الشركة في البورصة من كسب الوقت في سبيل أن ترتفع أسعار الخام. تتأمل السعودية وصول القيمة الكلية إلى أكثر من ترليوني دولار. وبالتالي الحصول على مبلغ يفوق المائة مليار دولار جراء خصخصة تلك النسبة (5%). وسوف يستخدم هذا المبلغ في سد عجز الميزانية العامة وكذلك في زيادة استثمارات الصندوق السيادي.
ضعف فاعلية العقوبات الأمريكية ضد إيران
دخلت الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ وتتناول حظر تصدير النفط الإيراني. يفترض أن تقود هذه العقوبات إلى ارتفاع الأسعار. ولكن حدث العكس تماماً. فقد انخفضت بشدة خلال الأيام الأولى من هذا التنفيذ.
ففي اليوم الأول من الحزمة الثانية قررت الإدارة الأمريكية استثناء ثمانية بلدان من العقوبات أي يمكنها الاستمرار باستيراد النفط الإيراني: الصين والهند وإيطاليا واليونان وكوريا الجنوبية واليابان وتركيا وتايوان. تستورد هذه الدول القسط الأكبر من النفط الإيراني. وبالتالي فإن العقوبات غير فاعلة.
قد يرى البعض أن هذا الاستثناء مقيد بستة أشهر وهي مدة ضرورية كي تبحث هذه الدول عن مورد آخر ثم تطبق العقوبات. هذا الطرح غير سليم. لأن الإدارة الأمريكية لم تتخذ العقوبات في نوفمبر بل عندما قررت الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو. بمعنى أن الاستثناء المذكور مهلة جديدة لمدة ستة أشهر ثانية. وقد تتبعها مهلة أخرى وهكذا.
إن قرار السعودية بتقليص الإنتاج نتيجة مباشرة ومنطقية للاستثناء الأمريكي. فلو كانت العقوبات فاعلة لما اتخذت السعودية والدول النفطية الأخرى قراراً بخفض الإنتاج. لأن النقص الذي كان من الممكن أن يحدثه النفط الإيراني كفيل برفع الأسعار.
استغل المسؤولون الإيرانيون الاستثناء الأمريكي فقالوا بأن العالم لا يقدر على الاستغناء عن النفط الإيراني.
والواقع تنتج إيران أربعة ملايين ب/ي (تستهلك حوالي نصفها). وبالتالي فإن صادراتها تمثل 2.6% من الطلب العالمي. كما يمكن الاستغناء عنها بزيادة الإنتاج السعودي. إذ تنتج السعودية حالياً 10.7 ملايين ب/ي (تستهلك حوالي أربعة ملايين ب/ي). ولديها قدرة إنتاجية إضافية تعادل الصادرات الإيرانية.
ومن زاوية أخرى طالبت مؤخراً وزارة النفط الإيرانية دول أوبك بزيادة حصتها في الإنتاج ليصل إلى 4.5 مليون ب/ي. تدل هذه المطالبة دلالة واضحة على عدم فاعلية العقوبات الأمريكية.
تذمر الولايات المتحدة
على عكس رغبة الإدارة الأمريكية لم يقرر مؤتمر وزراء النفط المنعقد بالجزائر في 23 سبتمبر 2018 زيادة الإنتاج بل تشكيل لجنة وزارية لتقرير حجمه للعام القادم (إنتاج أوبك الحالي 32.8 ملايين ب/ي). وسيتخذ المؤتمر القادم قراراً على ضوء توصيات اللجنة التي تأخذ بنظر الاعتبار تطور الأسعار وحجم الإنتاج ومعدلات النمو في الدول المستوردة للخام خاصة الآسيوية. شاركت في مؤتمر الجزائر 24 دولة وهي أقطار أوبك إضافة إلى بلدان نفطية أخرى في مقدمتها روسيا.
اجتمعت اللجنة الوزارية بأبوظبي في 12 نوفمبر 2018 لدراسة إمكانية تخفيض 1.4 مليون ب/ي. منها 500 ألف ب/ي التي أعلنت عنها السعودية. جاء ذلك نتيجة هبوط أسعار النفط بصورة كبيرة وخلال فترة قصيرة انحصرت بين مؤتمر الجزائر واجتماع ابو ظبي. ففي 1 أكتوبر كان سعر البرميل 85.3 دولاراً ثم هبط في 12 نوفمبر إلى 68.1 دولاراً وفي 16 نوفمبر إلى 67.3 دولاراً. في حين ترى السعودية بأن ثمانين دولار هو السعر المناسب للمنتجين والمستهلكين في آن واحد. وتتفق مع السعودية دول أخرى لا سيما روسيا.
ترى الولايات المتحدة ضرورة تدخل المنتجين لخفض الأسعار. وعندما تخاطب السعودية تذكرها بالحماية العسكرية: لولا الجيش الأمريكي لسقط النظام السعودي كما يردد الرئيس الأمريكي في مناسبات عديدة ويرى بأن على السعودية زيادة الإنتاج لخفض الأسعار. وهذا (بتقديره) الثمن الذي يجب على الرياض دفعه مقابل الحماية. لذلك كان الأمريكيون ينتظرون من السعوديين زيادة الإنتاج النفطي. وربطوا ذلك بفاعلية العقوبات ضد إيران. وما حدث فعلاً هو العكس تماماً. ولم تكتف الرياض بتقليص إنتاجها بل دعمت تخفيض إنتاج الآخرين داخل أوبك وخارجها. لماذا إذن لا تتخذ واشنطن عقوبات ضد الرياض؟ نرى من الناحية الاقتصادية خمسة أسباب.
السبب الأول. السعودية أكبر منتج للنفط في أوبك لكنها تخلت عن دورها القديم المتمثل بالمنتج المرجح. فهي لا تحدد إنتاجها النفطي حسب السوق بقدر ما تحدده وفق مصالحها. كان هذا الدور يتناسب مع أوضاع مالية تتسم بالفائض لم تعد موجودة حالياً. المنتج المرجح لا ينسجم مع العجز المالي المزمن.
السبب الثاني. شهدت النفقات العامة السعودية خاصة العسكرية والأمنية ارتفاعاً كبيراً بسبب التدخل الإيراني في المنطقة وبسبب العمليات الحربية في اليمن. يتطلب هذا الوضع زيادة الإيرادات أي رفع أسعار النفط خاصة عندما تتجه نحو الهبوط. ومما لاشك فيه أن الإدارة الأمريكية تدعم هذا الاتجاه السياسي والعسكري ولكن وفق حسابات دقيقة.
والسبب الثالث يرتبط بالميزان التجاري الأمريكي. السعودية من كبار مستوردي السلع الأمريكية خاصة المعدات العسكرية. وبالتالي فأن فاتورة النفط يقابلها حصيلة الصادرات المدنية والعسكرية.
والسبب الرابع يخص ترضية الطرف الأمريكي. لدى السعودية مجالات عديدة لتعويض الأمريكيين خاصة في ميدان الاستثمارات. ونتوقع فوز بورصة نيويورك في استقبال خصخصة ارامكو. وهذا مكسب كبير للأمريكيين الذين سيستثمرون في أكبر عملية خصخصة في العالم.
والسبب الخامس هو ارتفاع كلفة إنتاج النفط الأمريكي غير التقليدي. يتوقف جدوى هذا الإنتاج على ارتفاع أسعار الخام في السوق العالمية. هنالك إذن شركات أمريكية تتوقف أنشطتها إذا هبطت أسعار الخام.
لم ينجم قرار السعودية بتخفيض إنتاجها النفطي عن هبوط الأسعار فقط بل كذلك بسبب استمرار العجز المالي وتفاقم المديونية العامة وضرورة رفع قيمة أسهم آرامكو. أنه إجراء يدخل في إطار المصالح العليا لهذا البلد لا يتنازل عنها رغم الضغوط الأمريكية.