عامر ذياب التميمي- البيت الخليجي-
فيما يبقى الاقتصاد الكويتي يعتمد اعتماداً كلياً على النفط، بدأت الكويت منذ العام 1953م في عهد المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح وقبل الاستقلال في توظيف الأموال التي تزيد عن متطلبات الإنفاق العام، الجاري والرأسمالي، في أصول مالية وعينية.
بطبيعة الحال، ساهم المستشارون البريطانيون في صياغة سياسة الاستثمار الكويتية، وقدموا النصائح لحاكم الكويت بشأن كيفية توظيف الأموال المتاحة، وجرى توظيف الأموال ابتداءاً في ودائع مقومة بالجنيه الإسترليني ومسكوكات الذهب في بريطانيا، لكن الإدارة الكويتية قررت توظيف جزء مهم في أسهم حقوق الملكية والسندات. تلك التوظيفات المالية كانت ضمن ما أطلق عليه بالإحتياطي العام.
لم تكن فوائض الكويت كبيرة ولكن حنكة أمير البلاد، آنذاك، عززت التوجه نحو التوظيفات المالية لتعضيد الإيرادات السيادية للبلاد. وربما تكون هذه التوظيفات من أهم التوظيفات السيادية لسنوات خمسينات وستينات القرن الماضي، وجعلت من الكويت رائدة من تنويع مصادر الدخل بعد أن أصبحت من أهم البلدان المصدرة للنفط.
غني عن البيان أن إيرادات الخزينة العامة في الكويت من النفط كانت محدودة وتراوحت بين 14 مليون دولار في عام 1946م ثم بلغت 485 مليون دولار في عام 1962م، وهو العام الذي بدأت فيه الحياة الدستورية في الكويت. وعندما تم التفكير في توظيف الأموال في عام 1953م لم يزد دخل البلاد عن 168 مليون دولار.
وتطورت الأمور تباعاً بعد الصدمة النفطية الأولى في عام 1973م، بعد حرب أكتوبر، وبعد أن بدأت دول نفطية رئيسية مثل إيران وفنزويلا بالتفاوض مع شركات النفط الكبرى من أجل تأميم النفط أو الحصول على نصيب أفضل من قيمة صادراتها النفطية. وقتئذ؛ ارتفعت الأسعار من 1.5 دولاراً للبرميل إلى ما يقارب 13 دولاراً مطلع العام 1974م بما عزز الإيرادات النفطية في الكويت وغيرها من البلدان المصدرة للنفط.
في ذلك العام ارتفعت قيمة إيرادات النفط إلى 8 مليارات دولار بما يعني أن متوسط دخل الفرد في ذلك العام من النفط كان يناهز 10,000 دولار حيث لم يكن عدد سكان البلاد يزيد عن 800 ألف نسمة، مواطنين ووافدين.
ومنذ ذلك التوقيت، أخذت الإدارة الحكومية في البحث عن آليات وأدوات للإستثمار الأجنبي وتم تأسيس العديد من الشركات لكي تقوم بإنجاز أعمال إستثمارية في البلدان العربية والأجنبية بالإضافة إلى تثمير الأموال من خلال محافظ استثمارية تدار من قبل بنوك ومؤسسات مالية هامة مثل “Citi Bank” أوChase Manhattan” أو “HSBC ” و “Morgan ” وغيرها من المؤسسات المالية الأساسية في الدول الرأسمالية المتقدمة.
كانت الكويت مستعدة للتعامل مع المؤسسات المالية والتعرف على أدوات الإستثمار المختلفة والمتنوعة قطاعياً وجغرافياً. وتأسس مكتب الاستثمار الكويتي في لندن KIO عام 1953م. ويعتبر مكتب الإستثمار من أقدم المؤسسات الاستثمارية السيادية في العالم، وتخصص في توظيف الأموال في أسهم حقوق الملكية، وأدوات الدخل الثابت مثل السندات المتنوعة والاستثمارات البديلة الأخرى والاستثمارات المباشرة والعقار.
وسبق تأسيس هذا المكتب تأسيس الهيئة العامة للاستثمار التابع إلى إدارة الإستثمار في وزارة المالية والتي كانت تدار من قبل السيد خالد أو السعود وبإشراف من السيد عبدالرحمن سالم العتيقي وزير المالية الأسبق. وكما هو معلوم أن أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح كان حريصاً على متابعة تخصيص أموال الخزينة العامة وكيفية إنفاقها وكذلك متابعة توظيف الأموال في مختلف الأدوات وفي بلدان عديدة.
تأسس المرحوم أمير البلاد السابق الشيخ جابر الأحمد الصباح وتأهل معرفيًا بعد أن أصبح حاكمًا لمدينة الأحمدي، مدينة النفط، وتعامل مع شركة نفط الكويت ثم انتقل ليكون رئيساً للدائرة المالية في حكومة الكويت في عام 1959 في عهد المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح.
هذا الاهتمام بمسائل المالية العامة والاستثمار عزز توجهات الأمير الراحل لتطوير العمل المؤسسي، ولذلك تم إنشاء الهيئة العامة للاستثمار KIA في عام 1982، وأُنيط بها العمل على توظيف أموال الدولة، والإشراف على كافة المؤسسات المملوكة من قبل الدولة، ومتابعة كافة الاستثمارات المملوكة من قبل حكومة دولة الكويت.
حلت هذه الهيئة المستقلة بدلاً من إدارة الاستثمار في وزارة المالية. سبق ذلك تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة في عام 1976م، وتقرر آنذاك تحويل 50 في المئة من أموال الاحتياطي العام للدولة إلى هذا الإحتياطي الجديد، بالإضافة إلى أن قانون تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة أكد على تحويل مالاً يقل عن عشرة في المئة من الإيرادات العامة للدولة السنوية إلى هذا الاحتياطي.
ارتفعت قيمة هذا الاحتياطي على مدى السنوات وقارب الـ 80 مليار دولار في نهاية ثمانينات القرن الماضي، قبل الغزو العراقي للكويت. ووظفت الاستثمارات في بلدان مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلدان الاتحاد الأوربي واليابان وعدد من بلدان شرق آسيا الأخرى، أما الإحتياطي العام فقد وظفت أمواله داخل الكويت وفي المؤسسات والشركات المملوكة للدولة، بالإضافة للإستثمارات في بلدان عربية أو قروض لهذه البلدان، وودائع في بنوكها المركزية.
ومع قيام صدام حسين بغزو واحتلال الكويت تصدى المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة لذلك العدوان على السيادة، وقادت الولايات المتحدة تدخلًا عسكرياً إنطلق من السعودية لتحرير الكويت، لكن تحرير البلاد لم يكن مجاناً، صحيح أن دولاً عديدة خليجية وغيرها قدمت أموالاً هامة لمواجهة أعباء التحرير إلا أن الكويت رصدت ما يقارب من ال 30 مليار دولار سحبت من صندوقها السيادي. وتحملت حكومة الكويت أعباءًا كثيرة خلال فترة الإحتلال حيث دفعت أموال هامة للكويتيين المقيمين في الخارج وأولئك الذين فروا من البلاد. يضاف إلى ذلك أن التخريب كان ممنهجاً وطال آبار النفط والمباني والمطار والموانىء والكهرباء والبنية التحتية، ما ألزم الحكومة رصد أموال كبيرة لإعادة الإعمار.
أدت كل هذه الأعباء إلى تراجع قيمة الأصول المملوكة من قبل الصندوق السيادي الكويتي. وعمدت الكويت إلى تعزيز علاقاتها العربية وبلدان العالم الثالث الأخرى حيث قررت إعفاء دول معينة مثل مصر من الديون السيادية وعززت دور الصندوق الكويتي للتنمية لتقديم قروض طويلة الأجل ميسرة لدعم المشاريع التنموية في تلك البلدان. ولذلك، تعرض الصندوق السيادي بعد عام 1991م – أي بعد تحرير الكويت – الى تحديات مهمة تتطلب إعادة بناء الأصول وتعزيز القيمة.
لا ريب أن التطورات في سوق النفط صعوداً وهبوطاً مثلت تأثيرات مباشرة على قدرة الدولة على رصد الأموال لصالح صندوق الأجيال القادمة، كما حدد القانون الصادر عام 1967 والمشار إليه آنفا.
تمتعت الكويت خلال العقد الأول وتقريباً نصف العقد الثاني من هذا القرن بإيرادات نفطية جيدة مكنت من تحسين قيمة أصول صندوق احتياطي الأجيال القادمة حيث تقدر في الوقت الراهن بما يقارب 600 مليار دولار. توظف هذه الأموال بشكل كبير في الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوربي واليابان وعدد من البلدان الأسيوية. جزء من هذه التوظيفات يتمثل في سندات الخزينة الأمريكية والأدوات المسعرة المدرجة في الأسواق المالية الرئيسية. هناك استثمارات مباشرة في شركات خاصة أو شركات عقارية أو عقارات مملوكة بالكامل للصندوق. يبدو التوزيع النوعي لأدوات الاستثمار متوازنا، وكذلك هو الحال فيما يتعلق بالتوزيع الجغرافي والعملات الرئيسية. لكن يمكن الزعم بأن الدولار يظل من أهمل العملات التي تقوم بها تلك الأدوات الإستثمارية. بطبيعة الحال لا تنشر الهيئة العام للاستثمار بيانات تفصيلية عن توزيع استثماراتها نوعياً أو جغرافياً، وهي تقدم بيانات لمجلس الأمة سنوياً من خلال جلسة سرية. كما أن ما ينشر من خلال الصحف المتخصصة والدوريات لا يمكن الثقة بها. وعندما تذكر قيمة الأصول الإجمالية المستثمرة فإن على المرء أن يكون حريصاً على التعامل معها وقراءتها بحذر شديد.
يمكن الزعم بأن الصندوق السيادي يمثل نموذجاً جيداً للعديد من البلدان وإن لم يكن الأول في حيث القيمة، ولكن هناك مؤشرات بأن أداء أدوات الإستثمار يظل مواتياً وقد يحقق نتائج طيبة. خلال سنوات الثمانينات من القرن الماضي، وخصوصاً بعد تراجع أسعار النفط إلى مستويات متدنية قياسياً، بينت مصادر موثوقة بأن إيرادات الإستثمار في الخارج كانت توازي أو تزيد قليلاً عن إيرادات النفط.
هل يمكن الزعم بأن الصندوق السيادي يمثل تنويعاً للاقتصاد الكويتي؟ لا شك أن الصندوق السيادي يمثل مصدراً مهماً للدخل وإن لم يورد دخله في الميزانية العامة، بل يعاد توظيفها، لكن تنويع القاعدة الاقتصادية في أي من البلدان يجب أن يطور الإمكانيات الوطنية ويوسع النشاط الاقتصادي داخل البلاد وأن يرفع من مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي. كما أن تنويع القاعدة الاقتصادية يجب أن يؤسس على نظام تعليمي متقدم يرتقي بالقدرات البشرية ويرتفع بمساهمة العمالة الوطنية في سوق العمل.
يبقى الصندوق السيادي للكويت مصدراً مهماً للدخل يمكن الإعتماد عليه خلال السنوات القادمة إلا أنه يظل مرهوناً بالمتغيرات التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي والتحولات في بنية الاقتصادات التي يري الإستثمار خلالها، سواء كانت بفعل العوامل السياسية أو القانونية وكذلك العوامل التي تمر بها تلك الاقتصادات الناتجة عن الدورات الإقتصادية، على الأمد القصير أو الطويل.
ثمة تشابك في الاقتصاد العالمي لا يمكن لأي اقتصاد وطني التحرر منه مهما اتخذت من إجراءات أو تدابير، ولا يمكن لبلد مثل الكويت وبإمكاناتها الاقتصادية المحدودة أن تتجاوز هذه الأوضاع العالمية، وفي ذات الوقت لابد أن تعمل على اختيار أفضل أدوات الإستثمار في البيئات الاقتصادية المناسبة، خصوصاً تلك المحكومة بقوانين مستقرة بأنظمة سياسية تعتمد على الآليات الديمقراطية والحكم المؤسسي الرشيد.