ستراتفور-
مع حلول عام 2019، ينشغل الاستراتيجيون والاقتصاديون السعوديون بتخطيط ميزانية النفط العملاقة للعام المقبل، وتأتي توقعات النمو الاقتصادي جيدة، خاصة عند مقارنتها بالعام الماضي.
وخلال العام الماضي، كانت أسعار النفط مرتفعة بما فيه الكفاية، بحيث نجحت المملكة الصحراوية في تضييق العجز الكبير في ميزانيتها بشكل أسرع مما كان مقررا في الأصل.
وبلغ النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي 1.8% في النصف الأول من عام 2018، بزيادة قدرها نقطة مئوية كاملة مقارنة بنفس الفترة من عام 2017.
وارتفعت الإيرادات غير النفطية للنصف الأول من عام 2018 بنسبة تقترب من 50% سنويا مقارنة بالعام 2017.
ويبدو أن الإنفاق في العام المقبل سيكون أعلى من أي وقت مضى. وتعتزم الرياض زيادة الإنفاق الحكومي بما يصل إلى 7% في حين من المتوقع أن يصل إجمالي نفقات الموازنة إلى 1.106 تريليون ريال سعودي (295 مليار دولار)، وهي أكبر ميزانية في تاريخ المملكة على الإطلاق.
وتتوقع السلطات السعودية أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 2.9% في العام المقبل.
ولكن في حين تصور الحكومة كل هذا بشكل إيجابي، فإن هناك مشكلة أعمق يتم ترصدها، وهي تخص المحرك الاقتصادي المسؤول عن نمو البلاد.
وإذا كان النمو لا يأتي إلا من الإنفاق الحكومي الكبير، بدلا من نشاط القطاع الخاص أو مستويات الاستهلاك الأعلى، فإن خطط المملكة الطموحة لتنويع الاقتصاد لا تتمتع سوى بفرصة ضئيلة للنجاح على المدى القريب.
حقيقة الإصلاح
وتقول الحكومة إنها ملتزمة بشكل وثيق بأهداف "رؤية 2030"، والتي تعد محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد بالكامل لتحويل عبء النمو الاقتصادي إلى القطاع الخاص.
غير أن هذه الأولوية المعلنة تتناقض مع واقع الموازنة الحكومية، التي تتضمن إنفاقا عاما أكثر من أي وقت مضى، وذلك جزئيا لتعويض الأداء الباهت للقطاع الخاص، وعدم وجود استثمارات أجنبية لدعم هذا القطاع.
وقد أضر هذا الأداء الضعيف بقدرة المملكة على الإبقاء على النمو المطلوب بشدة في القطاع غير النفطي، الأمر الذي كان من المفترض أن يساهم في تحقيق أهداف أكبر مثل التوازن في الميزانية.
ولعقود من الزمان، كان الاقتصاد السعودي يهيمن عليه نموذج النمو الاقتصادي الذي تقوده الدولة، وفي هذا النموذج، تعد المملكة العربية السعودية مثالا لتلك الدولة "الريعية" الكلاسيكية، حيث لا تملك الحكومة والكيانات المرتبطة بالحكومة سوى مصدر واحد للدخل، ألا وهو عائدات النفط التي يتم توزيعها مرة أخرى على الشعب، في صورة نفقات يتم التحكم فيها بعناية، مثل العلاوات، والفوائد، وبرامج العمل.
وفي حين لا تسهم إيرادات النفط والغاز في المملكة بجزء كبير من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تمثل الغالبية العظمى من ميزانية الحكومة.
وعلاوة على ذلك، تهيمن الشركات المدعومة من الدولة بشكل كبير على النشاط المرتبط بالهيدروكربونات، مثل شركة النفط العربية السعودية "أرامكو"، وشركة الصناعات الكيماوية، "سابك".
ويعد أحد الأهداف الرئيسية لخطة الإصلاح الاقتصادي الطموحة في "رؤية 2030" هو إنهاء هذا الاختلال، وتحويل المسؤولية عن النمو الاقتصادي إلى القطاع الخاص، والابتعاد عن القطاع العام المثقل بالأعباء، وبذلك، تأمل المملكة في تنويع اقتصادها، خاصة أن الوصول إلى ذروة الطلب على النفط يظل أمرا ممكنا على المدى المتوسط.
لكن هذا التحول أثبت أنه صعب للغاية، حيث تسبب الاضطراب السياسي، بما في ذلك الفضائح والأزمات الدبلوماسية بين السعودية والدول الأخرى، وعدم اليقين الناجم عن تغير أسعار النفط، بالإضافة إلى السجل المتقلب فيما يخص أهداف الإصلاح الاقتصادي، في تعقيد عملية الانتقال، كما أنه قلل من اهتمام المستثمرين الأجانب والمحللين وثقتهم في مشاريع القطاع الخاص السعودي.
جهود مضنية
في الواقع، على الرغم من العديد من الجهود التي تبذلها الرياض لإدخال تدابير بناء الثقة لتعزيز القطاع الخاص، بما في ذلك تسهيل القواعد المتعلقة بالتأشيرات وملكية الأعمال وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، يبدو أن المستثمرين يفقدون الثقة في السوق السعودية.
وفي الواقع، كان هناك اتجاه هبوطي واضح لمؤشر الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) في المملكة العربية السعودية على مدى العقد الماضي.
وفي حين ينبع بعض هذا الانخفاض من تراجع عالمي شامل في الاستثمار الأجنبي المباشر بعد الأزمة المالية لعام 2008-2009، تبرز السعودية ومجلس التعاون الخليجي بشأن خاص في هذا الشأن.
وفي عام 2017، نجحت المملكة في جذب 1.4 مليار دولار فقط، وهو رقم يقترب من أرقام عدد من الدول الأفقر في الشرق الأوسط.
وبالإضافة إلى جهودها لتسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر، خففت الدولة أيضا القواعد التي تحكم الاستثمار في بورصة "تداول"، وذلك بالنسبة للمستثمرين المؤسسيين الكبار، واعتمدت نظام تصنيف دولي لدمج نفسها في الأسواق الناشئة.
وكانت شركة "إم إس سي آي" قد قالت مؤخرا إنها ستشمل السعودية في مؤشر الأسواق الناشئة لعام 2019، كما صنفت "جي بي مورغان" المملكة، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والكويت، كدول محتملة يمكن أن تنضم إلى مؤشرات السندات الحكومية في الأسواق الناشئة لعام 2019.
ولكن كما تعلمت الرياض في حالة الاستثمار الأجنبي المباشر، فإنها حتى لو قمت بالجهد المطلوب، فلن تكون النتيجة إيجابية بالضرورة. ففي النهاية، أظهر المستثمرون إحجاما واضحا عن تعميق مشاركتهم في البورصة السعودية.
وفي الواقع، اجتذبت البورصة القطرية الأصغر حجما المزيد من الاستثمارات حتى الآن في عام 2018 أكثر من "تداول"، وذلك في وقت يستمر فيه تدفق رؤوس الأموال المحلية خارج المملكة.
وتشير تلك التطورات مجتمعة إلى أن المستثمرين المحليين يرغبون في أخذ استراحة من السوق بعد حملة التطهير بدعوى مكافحة الفساد العام الماضي.
ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإن تدابير المملكة غير المتسقة مع القانون فيما يتعلق بقطاع الأعمال أضرت أيضا بجاذبية للاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة.
ولأن الأجانب يفرض عليهم العمل مباشرة مع شركاء محليين في ظل النظام الرقابي السعودي، فإن عدم اليقين السياسي يعد سببا رئيسيا في ترددهم حول الاستثمار في السعودية، لأن الشركات الخارجية ترغب في ضمانات بألا يتعرض شركاؤها المحليين فجأة لأي تدابير قسرية في الرياض.
وبطبيعة الحال، تعد سمعة ولي العهد "محمد بن سلمان" المتقلبة باستمرار الدافع المباشر لهذا الغموض، حيث تكثر الأسئلة حول سيادة القانون، وأمن الاستثمارات، واستقرار الحكومة.
كما ستعيق القضايا الأخرى المرتبطة بـ"رؤية 2030" آفاق نمو القطاع الخاص، بما في ذلك الجهود الرامية إلى تشديد قوانين سوق العمل من خلال توظيف المزيد من السعوديين، وتنفيذ ضرائب وفرض رسوم جديدة.
وعلى الرغم من أن هذه الجهود تهدف إلى دعم القطاع الخاص ومساعدة الحكومة في إدرار المزيد من الإيرادات غير النفطية على المدى الطويل، لكنها تثير عدم اليقين في القطاع الخاص على المدى القصير.
وعلاوة على ذلك، أدى سعي الحكومة لـ"السعودة" إلى رحيل العديد من العمال المهاجرين الذين كانوا يساهمون في اقتصاد المملكة، ما أدى إلى خفض مستويات الاستهلاك العام.
قيادة النمو
ولكن عدم اليقين الذي يخيم على القطاع الخاص لا يعني أن عام 2019 سيكون سيئا بالكلية على الاقتصاد السعودي، وورد أن الرياض خصصت 100 مليار ريال من الإنفاق العام لمشاريع بنية تحتية ومشاريع استثمارية كثيفة رأس المال في الداخل والخارج.
وتعتزم الشركات المدعومة من الدولة، مثل "أرامكو" و"سابك"، استثمار مليارات الدولارات في مشروعات خارجية، بما في ذلك مصفاة هندية تضم "أرامكو" السعودية وشركة بترول أبوظبي الوطنية.
وقد أعلن صندوق الاستثمار العام السعودي (صندوق الثروة السيادي في المملكة) بلا شك عن استثمار مبالغ كبيرة أيضا، وفي نهاية المطاف، يعني هذا أن المملكة لا تزال غنية بما يكفي لتنمية اقتصادها في مواجهة انخفاض أسعار النفط والنمو العالمي في عام 2019.
ومع ذلك، تمتلك المملكة الصحراوية سجلا راسخا في تأجيل جهود الإصلاح، وفي العام الماضي فقط، أضافت المملكة 3 أعوام إضافية إلى الموعد النهائي المحدد لتحقيق التوازن في ميزانيتها والذي كان مقررا في 2020.
وإذا ثبت أن العام المقبل سيكون عاما آخر من الركود والارتباك بالنسبة للقطاع الخاص، خاصة في قطاعات السياحة والترفيه الناشئة، التي استهدفها ولي العهد بشكل خاص، فقد تضطر الرياض إلى إعادة تعديل أهدافها مرة أخرى.
لكن في الوقت الحالي، يبدو أن المملكة ستواجه صعوبات في العام المقبل لتشجيع القطاع الخاص على زيادة استثماراته في الداخل والخارج، وهو أمر من شأنه أن يعقد جهود ولي العهد لتصوير رؤيته الطموحة لعام 2030 على أنها نجاح غير مسبوق.