DW- عربية- إبراهيم محمد-
في سابقة تاريخية أضحت الولايات المتحدة بإنتاج نفطي وصل إلى نحو 12 مليون برميل يومياً أكبر منتج للنفط في العالم متجاوزة بذلك كل من روسيا والسعودية. أي تبعات دراماتيكية لذلك على السعودية التي تفقد تحكمها بمفاتيح سوق النفط؟
في خريف 2014 حضر وزير النفط السعودي آنذاك خالد النعيمي إلى اجتماع منظمة الدول المصدرة للنفط/ أوبك ليفرض على الأخيرة تبني وجهة نظر بلاده القائلة بعدم تخفيض إنتاج النفط. ورغم تدهور الأسعار خلال تلك السنة إلى أكثر من النصف من حوالي 110 إلى ما دون 50 دولاراً للبرميل أصرت السعودية بدعم سياسي أمريكي وغربي على إبقاء معدل الإنتاج دون أي تخفيض رغم خسائرها المالية الناجمة عن ذلك بحجة حرصها على استقرار الاقتصاد العالمي. غير أن الهدف الأهم من وراء ذلك لم يكن الاستقرار بقدر ما كان تركيع روسيا وإيران سياسياً بسبب مواقفهما من أزمتي سوريا وأوكرانيا. الجدير ذكره أن كلا البلدين يعتمدان على النفط، ولكن بشكل أقل من الرياض. ومن الجدير ذكره أيضاً أن السعودية ودول الخليج الأخرى الداعمة لها تعتبر ما تسميه "السعر العادل" والمناسب للنفط بحدود 60 إلى 80 دولاراً للبرميل. وهو السعر التي تبني عليه موازناتها السنوية.
أيام التهديد والوعيد
لم تكن هذه المرة الأولى التي تفرض فيها السعودية وجهة نظرها على المنظمة وعلى أسواق النفط. فحتى عهد قريب كان بإمكان الرياض عن طريق التهديد والوعيد التحكم إلى حد كبير بقرارات أوبك وبهذه السوق منذ الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. فبعد هذه الحرب تضاعف الإنتاج السعودي ليصل إلى 10 مليون برميل يومياً وليعوض تراجع الإنتاجين الإيراني والعراقي في السوق العالمية. وواكب هذا الصعود السعودي النفطي انهيار المعسكر الاشتراكي وهيمنة القطب الواحد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الناتو حلفاء السعودية. وهذا ما أعطى للأخيرة موقعاً سياسياً واقتصاديا يُحسب له أكثر من حساب على الصعيدين الإقليمي والدولي
شمس أوبك والسعودية إلى غروب
غير أن رياح أسعار النفط مشت بين عامي 2014 و2016 بما لا تشتهيه السعودية، فقد تدهورت الأسعار لفترة أطول من الفترة المرغوب بها ووصلت في عام 2015 إلى نحو 30 دولاراً للبرميل على ضوء زيادة إنتاج الولايات المتحدة وروسيا والعراق وغيرها من النفط الخام. وهو الأمر الذي أنذر السعودية التي بدت ومعها ودول أوبك عاجزة عن فعل شيء بسبب خلافاتها من جهة وتراجع حصتها من جهة أخرى في سوق النفط العالمي.
وهكذا ومع الفشل في تحقيق الأهداف السياسية إزاء إيران وروسيا من جهة، وتزايد العجز في الموازنة السعودية وتقلص احتياطاتها المالية بشكل سريع من جهة أخرى، بدأ تعاون نفطي سعودي روسي غير مسبوق في تاريخ سوق النفط. وقد أثمر هذا التعاون نهاية عام 2016 عن اتفاق بين أوبك ورسيا على قيامهما معا بإعادة تحديد حصص الإنتاج وخفض الإمدادات بنحو 1.8 مليون برميل يومياً مع بداية 2017 بهدف وقف التدهور ورفع الأسعار. وقد أثمر هذا الاتفاق خلال أقل من سنتين، إذ ارتفع سعر البرميل إلى حوالي 80 دولاراً للبرميل مع حلول خريف العام الماضي. غير أن هذا السعر تراجع بنسبة زادت على الثلث خلال الشهرين الماضيين. وبذلك تدهورت الأسعار إلى حدود تتراوح بين 44 إلى 53 دولاراً للبرميل حسب نوعية النفط. غير أن السعر لم يتحسن رغم قرار أوبك وروسيا تقليص الإنتاج بنحو 1.2 مليون برميل يومياً اعتباراً من مطلع السنة الحالية 2019. ومما يعنيه ذلك مزيداً من الإضعاف لدور منظمة أوبك وروسيا في تحديد الأسعار. ويزيد من ضعف هذا الدور قرار قطر بالانسحاب من المنظمة وتركيزها على ضخ مزيد من الغاز في السوق العالمية بشكل يقلل من أهمية الذهب الأسود ويضعف الدور النفطي للسعودية.
أمريكا قادمة إلى السوق
عندما تتحدث وسائل الإعلام والخبراء عن جمود الأسعار وبقائها على مستوى منخفض في الوقت الحالي، فإنها تعزي هذا الوضع إلى نمو المخزونات الأمريكية ونمو الاقتصاد العالمي. غير أن المعطيات المتوفرة تفيد بأن التراجع مرتبط بالأرقام القياسية التي حققها الإنتاج الأمريكي أكثر من ارتباطه بالمخزون والاقتصاد العالمي . فقد وصل هذا الإنتاج إلى أكثر من 11.6 مليون برميل يومياً في سبتمبر/ أيلول الماضي 2018 لتصبح الولايات المتحدة بذلك المنتج الأول للذهب الأسود متخطية روسيا والسعودية اللتان وصل إنتاجهما اليومي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وعلى التوالي إلى 11.2 و11 مليون برميل يومياً. وبفضل هذا التحول الذي يمكن وصفه بالتاريخي تمكنت واشنطن مؤخراً ولأول مرة منذ صعودها كقوة عظمى من التحول إلى بلد يصدر من النفط أكثر مما يستورد. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية بأن يتجاوز الإنتاج الأمريكي 12 مليون برميل يومياً مع نهاية العام الجاري. وهناك فرصة لرفع مستوى الإنتاج الأمريكي إلى أكثر من 15 مليون برميل يوميا في غضون 3 إلى 5 سنوات. ومما يعنيه ذلك تفويت الفرصة على المنتجين الآخرين وفي مقدمتهم السعودية للتحكم في سوق النفط العالمية كما كان عليه الأمر سابقاً.
خطط سعودية أما معضلة؟
تعتمد السعودية في إيراداتها على النفط أكثر من أي بلد آخر من بين الدول الرئيسية المنتجة والمصدرة له. ولا يشكل الذهب الأسود فقط مصدراً لأكثر من 80 بالمائة من إيرادات الرياض، فهو كذلك بيضة القبان لنفوذها السياسي والاقتصادي على الصعيدين العربي والدولي. ومما يعنيه ذلك أن تراجع الإيرادات النفطية يضعف السعودية ويزعزع مكانتها على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية داخلياً وخارجياً، وإذا ما استمر هذه التراجع لمدة تزيد على سنة في وقت يزداد فيه نفوذ المنافسين في أسواق النفط، فإن الجمود والانكماش بانتظار الاقتصاد السعودي الذي لا يعتمد على تنوع مصادر الدخل ولا على القطاعات الإنتاجية المحلية للسلع الأساسية.
وفي حال دخل سيناريو تراجع الإيرادات على المدى الطويل حيز التنفيذ فإن الموازنة السعودية القادمة ستكون أول الضحايا. فلكي تحافظ هذه الموازنة على عجز محسوب بنحو 35 مليار دولار ينبغي أن يكون سعر برميل النفط بحدود لا تقل عن 70 إلى 75 دولاراً للبرميل. أما إذا بقي السعر كما هو عليه الآن بحدود 50 دولاراً للبرميل، فإن عجزا بعشرات المليارات سيضاف إلى العجز المتوقع. وعندها سيكون المخرج المؤقت هو اللجوء إلى الاقتراض الخارجي ورفع الضرائب وسحب المزيد من الاحتياطي الذي ينضب بسرعة. وعندها يبقى السؤال، كيف يمكن إقناع المستثمرين بالقدوم في مناخ كهذا إلى المملكة التي وضعت خطط أكثر من طموحة لتحديث اقتصاديها وإنهاء تبعيته للنفط؟ ويزيد الطين بله الوضع السياسي الصعب الذي يواجهه الملك سلمان وولي عهده ابنه الأمير محمد بعد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إستنبول التركية.