اقتصاد » احصاءات

ما الذي يخبرنا به اكتتاب أرامكو عن خطط الإصلاح في السعودية؟

في 2019/12/11

فاينانشيال تايمز -

وعدت السعودية - أكثر الدول المحافظة - بالقيام بما لم تجرؤ عليه أي دولة خليجية أخرى حين تعهدت بإجراء اكتتاب عام لشركة النفط الحكومية السعودية أرامكو ، والسماح للعالم بالاطلاع على تفاصيلها، والاستحواذ على حصة في جوهرة تاج المملكة في نهاية المطاف.

عندما وصل المصرفيون، استقبلهم الأمير "محمد بن سلمان" - والذي كان آنذاك ولي ولي العهد - و"فريقه" وهم جالسون حول مائدة وصفها أحد المديرين التنفيذيين الذين حضروا اجتماع ديسمبر/ كانون الأول 2016 بأنها أكبر مائدة رآها على الإطلاق.

وكان المصرفيون يتنافسون على إقناع السعودية بتولي مسؤولية أكبر طرح عام أولي في التاريخ، بينما كانت الرياض تسعى إلى تقييم الشركة بقيمة 2 تريليون دولار، وكانت تنظر في إدراج 5% من أسهمها لاكتتاب عالمي بهدف جمع مبلغ 100 مليار دولار.

يقول المدير التنفيذي: "لقد كان الاجتماع ممتلئًا بالحماس. كان بعض الناس متشككين، لكنني قلت أن علينا أن نركز على الإيجابيات. لقد كانوا مستعدين أخيرًا للقيام بذلك وإحداث تغيير اجتماعي واقتصادي".

رحلة الاكتتاب

بعد ثلاث سنوات مضطربة، مازال بإمكان الرياض أن تنسب لنفسها الاكتتاب الأولي العام الأكبر في العالم، لكن على نطاق أصغر بكثير مما اقترحت في البداية. وستقوم أرامكو السعودية بإدراج 1.5% من أسهمها في البورصة المحلية لتجمع ما لا يقل عن 25.6 مليار دولار، مع مشاركة الحد الأدنى من المؤسسات الأجنبية التي تراجعت عن المشاركة، حتى مع تقليص قيمة الشركة إلى 1.7 تريليون دولار.

تم الإشادة بالطرح العام الأولي في السعودية باعتباره خطوة فارقة لأكبر دولة مصدرة للنفط الخام في العالم؛ وكدليل على أن الأمير "محمد بن سلمان" الذي ترقى إلى منصب ولي العهد في عام 2017، يمضي قدمًا في تعهده بإصلاح الاقتصاد المدمن على النفط وتحديث دولته. لكن العديد من الممولين المرهقين الذين تم استهلاكهم وسط الأنباء المتضاربة حول الاكتتاب أصبحوا أكثر ترددا بسبب تقليص حجم الاكتتاب وإدراك أن العوائد التي كانوا يحلمون بها لن تتحقق أبدًا.

يقول مصرفي بارز طلب عدم الكشف عن هويته: "إنهم لا يفعلون ما كانوا يهدفون إلى فعله، وهو جلب رأس المال الأجنبي. إنها ليست صفقة حقيقية، إنها سياسية".

وكانت قصة الاكتتاب العام أشبه ما يكون بقصة سياسية صممها "محمد بن سلمان" بهدف توظيد سلطته وهز المملكة على نطاق لم تشهده منذ أن أسس جده "عبدالعزيز" الدولة الحديثة قبل 87 عامًا. والآن مع اقتراب المرحلة الأولى من خطة الأمير محمد "رؤية 2030" من نهايتها، فقد تبددت العديد من الأهداف الاقتصادية، في حين صارت المملكة أكثر استبدادا، وتم إفساح المجال لحرب الروايات بين المتفائلين المؤيدين بقوة تجاه ولي العهد، والمتشائمين الذين يخشون أن يكون لتهوره وقيادته العدوانية أضرار كبيرة على المملكة.

يقول أحد المدراء المطلعين على شؤون الديوان الملكي: "كان الأمر مزيجا بين طموحات مشروعة وطريقة خاطئة. عندما تحاول أن تفعل الكثير، ينتهي بك الأمر بألا تفعل شيئًا يُذكر".

الحاجة لتحقيق إنجاز

يساعد التعثر الاقتصادي في المملكة في توضيح سبب حرص ولي العهد السعودي على استكمال إدراج أرامكو السعودية هذا العام؛ سعيا وراء إنجاز ينقذ سمعته.

ويقول مسؤول تنفيذي أجنبي على علاقة بالمملكة: "قبل الاكتتاب العام، كان هناك بعض خيبة الأمل بأن أيًا من المشاريع الكبيرة لم تسفر عن أي شيء وأن أداء الاقتصاد كان سيئا".

وأضاف: "كان الناس يسألون حول رؤية 2030. ومع الاكتتاب العام، يمكنهم أن يقولوا إنهم فعلوا شيئًا تعهدوا أنهم سيفعلونه".

ورغم ذلك، كان هناك بعض التقدم في ملفات أخرى. وقد بدأ ولي العهد بالفعل في تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية التي لم يكن يعتقد الكثيرون أنهم سيرونها، والتي شملت رفع الحظر عن قيادة النساء، وفتح دور السينما، وتخفيف القواعد التي تمنع النساء من السفر إلى الخارج دون موافقة الأولياء الذكور؛ وكبح الشرطة الدينية.

بالتزامن مع ذلك، تم إقرار قوانين جديدة تنظم أمور الإفلاس وملكية الأجانب للأسهم والشركات والرهون العقارية.

اتخذت الرياض القرار الحساس سياسيا بتخفيض دعم الطاقة والوقود لتخفيف العبء المالي، وعندما قدمت أرامكو السعودية امتيازات جديدة للمستثمرين في حملة ترويجية لتسويق سنداتها للمرة الأولى هذا العام، كان ينظر إلى الأمر على أنه تطور كبير عن النهج المعتاد للشركة.

لكن بالنسبة للكثيرين، فإن الإيجابيات قد أغرقتها السلبيات، بما في ذلك القتل المفزع لـ"جمال خاشقجي"، الذي لم يتم العثور على جثته المقطعة الأوصال بعد عام من مقتله.

وكانت العديد من الشركات السعودية تعاني بالفعل بسبب آثار حملة مزعومة لمكافحة الفساد أجريت قبل 11 شهرًا من مقتل الصحفي في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، حين تم احتجاز أكثر من 300 من الأمراء وأباطرة العمل في فندق ريتز كارلتون، وهو نفس الفندق الذي أقام فيه المصرفيون المتحمسون قبل أشهر، مما حطم الثقة الهشة لمجتمع الأعمال الذي يعاني بالفعل من ثقل تدابير التقشف وفشل الدولة في دفع استحقاقاتها.

الشعور بالمخاطر

عززت حملات قمعية منفصلة استهدفت المدونين والناشطات والصحفيات ورجال الدين والأكاديميين الاعتقاد بأن الرياض أصبحت أكثر قمعية في عهد "بن سلمان". وتم تأميم النقاش العام في المملكة، سواء كان الأمر يتعلق بالاكتتاب العام أو وتيرة الإصلاح، مما أبرز مخاطر الاستثمار في البلاد.

وبدلا من تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الذي كان ولي العهد يراهن عليه لدعم خططه، انخفض حجم الاستثمارات الأجنبية في المملكة إلى 1.4 مليار دولار في عام 2017.

وعلى الرغم من أنه قد ارتفع إلى 3.2 مليار دولار العام الماضي، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، فإن هذا أقل من نصف الرقم الذي حققته المملكة عام 2016.

وفي الوقت نفسه، تضاعف الاستثمار الخارجي للسعودية ثلاثة أضعاف ما بين 2017 و 2018 إلى 21.2 مليار دولار، في انعكاس للإنفاق الضخم من قبل الكيانات الحكومية، لاسيما صندوق الاستثمار العام، وصندوق الثروة السيادية، وكذلك المستثمرين من القطاع الخاص الذين يحوّلون الأموال إلى الخارج.

يقول مدير تنفيذي مطلع على شؤون الديوان الملكي: "كان بإمكانه استخدام طاقة الأمل بدلاً من طاقة الخوف. يمكن للقطاع الخاص السعودي تعبئة 200 مليار دولار إلى 300 مليار دولار، النقص هنا ليس رأس المال، ولكن في الثقة".

وأضاف قائلا: "لقد رأينا أصدقاءنا يذهبون إلى فندق ريتز، ورأينا الحكومة لا تدفع فواتيرنا والآن يقولون إن علينا أن نأتي ونستثمر".

يعترف المسؤولون السعوديون بالأخطاء. ولكن هناك شعور بالإحباط لعدم تقدير الإنجازات التي تم تحقيقها على حد وصفهم. ويقول مسؤول سعودي بارز: "ليس هناك شك في أن الأمر أكثر صعوبة مما كنا نأمل، لكن لا يمكن التقليل من أهمية ما تم تحقيقه بالفعل".

نتائج عكسية

ومع ذلك، فإن الأمير ولي العهد هو الذي وضع مثل هذه الأهداف العالية في وقت كانت فيه المنطقة الغنية بالنفط تتصارع مع التدهور المطول في أسعار الخام الذي حول الفائض المالي الوفير إلى عجز كبير. وكان ولي العهد واضحًا بشأن أهدافه الرئيسية، وهي كبح الدور القيادي للدولة وخلق وظائف في القطاع الخاص.

كانت الخطة الوطنية للتحول، التي تم الكشف عنها عام 2016، تهدف إلى خفض معدلات البطالة من 11.6% إلى 9%، وخلق أكثر من 450 ألف وظيفة في القطاع الخاص وزيادة الإيرادات غير النفطية، مع خفض أجور القطاع العام من 45% إلى 40% من إجمالي الإنفاق الحكومي، وكل ذلك بحلول عام 2020.

لكن أصبح من الواضح أن العديد من الأهداف كانت غير واقعية، وفي العام التالي قامت الرياض بمراجعة الخطة الوطنية للتحول، مع إزالة بعض الأهداف وتأجيل أمد بعضها الآخر.

وكانت تلك علامة مبكرة على صعوبة المهمة. واليوم، ترسم العديد من المقاييس صورة مختلفة تمامًا عن المملكة غير ما أراده ولي العهد، حيث لا يزال دور الدولة هو المهيمن في الاقتصاد كما كان دائمًا، في حين تبلغ نسبة البطالة 12.2% بعد ارتفاعها إلى مستوى قياسي بلغ 12.9% العام الماضي.

وبالمثل، زادت فاتورة الأجور في القطاع العام إلى 50% من النفقات، بينما من المتوقع أن يرتفع عجز الموازنة إلى 50 مليار دولار العام المقبل، أي ضعف حصيلة الاكتتاب العام الأولي في أرامكو السعودية.

وفي حين عززت الحكومة الإيرادات غير النفطية، فإنها فعلت ذلك من خلال فرض ضريبة القيمة المضافة والتعريفات الجمركية على العمال الأجانب الذين يهيمنون على القطاع الخاص.

ولكن هذه الخطوة الأخيرة أضعفت الشركات التي تعتمد على العمالة الأجنبية الرخيصة. وفيما رحب الاقتصاديون بخفض دعم الطاقة، فإنه زاد من تكاليف الشركات وتسبب في تراجع الطلب.

ونتيجة لذلك، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو في الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى 0.2% بسبب انخفاض أسعار النفط وخفض الإنتاج، حتى مع وجود نشاط نسبي في القطاع غير النفطي.

ويشير أحد المسؤولين إلى الزيادة الملحوظة في عدد النساء العاملات، لا سيما في مراكز التسوق، حيث دفعت الحكومة تجار التجزئة إلى توظيف السعوديات. ومع ذلك، كان هناك تقدم قليل في تحقيقهدف رفع نسبة النساء في القوة العاملة من 23% إلى 28% بحلول العام المقبل.

ويقول المسؤول التنفيذي المطلع على شؤون الديوان الملكي: "كان خطأ ولي العهد أنه صدق الوعود الجوفاء للمستثمرين الذين تعهدوا بضخ مئات المليارات في المملكة في حين أنهم كانوا يريدون فقط حصة من العمل المربح للحكومة السعودية".

استمر هذا السلوك المتملق من خلال عملية الاكتتاب العام، التي تم إحياؤها بعد جذب إصدار سندات أرامكو السعودية البالغة 12 مليار دولار لاهتمام أجنبي كبير في أبريل/ نيسان.

وفي حين أن العديد من المسؤولين التنفيذيين قالوا إن الوصول إلى تقييم بقيمة 2 تريليون دولار أمر ممكن للغاية، فإنهم فشلوا في الوفاء ذلك، وشعر المسؤولون السعوديون بالغضب حين أخبرتهم البنوك في النهاية أن الطلب الدولي يعتمد على تقييم الشركة عند حل أقل من 1.5 تريليون دولار.

رهانات محفوفة بالمخاطر

ورغم النطاق المحدود للاكتتاب العام، لا يزال العديد من السعوديين يعارضون العملية. ويقول أحد المدراء التنفيذيين الخليجيين: "إنهم يلقون بالأموال من مكان إلى آخر، وما يقلقني هو أنه سيتم استخدامها للاستثمار في الخارج، وليس في إنشاء صناعات محلية قوية".

ومن المرجح أن تذهب أموال الاكتتاب في النهاية إلى صندوق الاستثمار العام السعودي، والذي مر بتحول جذري ليصبح في الواقع الأداة الشخصية لولي العهج لدفع عملية الإصلاح.

يتولى صندوق الثروة السيادي، الذي يرأسه "ياسر الرميان:"، أحد أقرب مساعدي ولي العهد، الرئيس الجديد لشركة أرامكو السعودية، يتولى مهمة إنشاء صناعات جديدة في الداخل بالإضافة إلى تنفيذ مشاريع رائدة مثل نيوم؛ المدينة المستقبلية التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار.

وحقق الصندوق مكانة بارزة على الساحة العالمية من خلال استثمارات عالية المستوى، بما في ذلك ضخ 45 مليار دولار في صندوق "سوفت بنك" الياباني.

لكن دور صندوق الاستثمار العام يبقى مثيرا للجدل. وفي حين يجادل المؤيدون بأن هناك حاجة للصندوق لقيادة المشاريع التي لن يقوم بها القطاع الخاص، يشكو المنتقدون من كونه يزاحم القطاع الخاص، مما يعزز هيمنة الدولة ويخلق رهانات محفوفة بالمخاطر. ويشعر البعض بالقلق من أن الصندوق يبسط سيطرته الآن على أرامكو السعودية، ويسعى لاستخدام الشركة كبقرة حلوب.

ويقول رجل أعمال سعودي: "إن صندوق الاستثمارات العامة يمتص كل الموارد الممكنة".

ورغم ذلك، تبقى هناك قضية واحدة توحد المشككين والمتفائلين. فمع اكتمال الاكتتاب العام، سيكون الاختبار النهائي لقدرات ولي العهد هو تنفيذ المرحلة التالية من بناء اقتصاد قوي.

يقول الخبير في الشأن الخليجي من كلية لندن للاقتصاد "ستيفن هيرتوج": "الشباب السعوديون سعداء للغاية ويشعرون أنهم مدينون للقيادة بالكثير من الفضل". لكنه يحذر من أن "الإصلاحات الاجتماعية هي ثمار سهلة، في حين أن إيجاد وظائف كافية لمعالجة بطالة الشباب تعد مهمة أكبر".

ويضيف: "ستستغرق المشروعات الضخمة الكثير من الوقت ويعتقد بعض السكان المحليين أن صندوق الاستثمارات العامة قد ينشئ استحواذات عديمة الفائدة وباهظة الثمن في ذات الوقت".