ميس الفارسي- البيت الخليجي-
تتشكل الأنظمة السياسية عبر التاريخ نتيجة التسويات والتوافقات –إما طوعا أو كراهية– بين القوى الاجتماعية الفاعلة، في حالة تشبه عملية الفرز الطبيعي في سياقٍ سياسي. هذه التفاهمات كانت تستدعي أن يقدم الأغلبية من المحكومين التنازلات للأقلية من الحُكام، سواءً في حرياتهم واستقلاليتهم كأفراد وجماعات أو في الخضوع لتوفير الطرف الأقوى –الحكام– الأمن الذي يؤدي لاستقرار المجتمع وازدهار الحياة الاقتصادية.
ويؤكد المفكر الإنجليزي توماس هوبز، رغم إيمانه بضرورة وجود سلطة مطلقة، أن وجود العقد الاجتماعي هو ضرورة لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. بطبيعة الحال، طرأت على نظرية العقد الاجتماعي تطور رافق المتغيرات التي صاحبت عصر التنوير والثورة الصناعية في أوروبا. تجلت هذه التحولات في الثورة الفرنسية وما سبقها من تأصيل نظري للعقد الاجتماعي لدى جان جاك روسو، حيث تطورت النظرية وأصبحت بعد ذلك النواة التي تستند عليها السلطات السياسية لاكتساب الشرعية، فالمواطنون هم مصدر السلطات، والضرائب لا تؤخذ إلا بشرط التمثيل السياسي ومقابل الخدمات التي توفرها السلطة.
العقد الاجتماعي المفقود
خالفت دول الخليج وتجاوزت العقد الاجتماعي منذ البدايات من خلال تثبيت شرعيتها مقابل توفير الخدمات الأساسية للمواطنين دون ضرائب على نمط دول “الرفاه”. ويشير مصطلح دولة الرفاه للحكومة التي تتحمل توفير الرفاهية لمواطنيها من خلال تأمين المعيشة وإعادة توزيع الثروات –من ريع النفط في حالة الخليج– على المواطنين. يحدث ذلك من خلال توفير الخدمات الأساسية للعامة كالتعليم والرعاية الصحية والتوظيف إلى جانب برامج الحماية الاجتماعية.
وعدا أن هذا النموذج لا يعتبر مستداماً من الناحية المالية، بسبب انخفاض عوائد النفط التي تمول هذه المشاريع بشكل رئيسي، أصبحت دولة الرفاه تشكل عبءً ماليًا على الحكومات وهو ما يُرصد بشكل مباشر في تردي الخدمات كالتعليم والصحة في بعض دول الخليج.
ساهمت طفرة النفط في دول الخليج بدءًا من البحرين في بناء أسس دولة الرفاه التي ينعم المواطنون فيها بالخدمات والأمن مقابل تثبيت شرعية الأسر الحاكمة وسلطتها. في حالة الكويت توسعت تخوم دولة الرفاه لتشمل خدمات الإسكان لجميع المواطنين، وتماشياً مع الكويت تبنت دول الخليج المتبقية ذات السياسات، فأصبح من واجب الحكومات الخليجية توفير السكن الخاص باعتباره حقّاً أساسياً للمواطنين. ولهذه الأسباب أطلق بعض الخبراء على دول الخليج “دول السوبر رفاه“.
لا شك أن تراجع الطلب العالمي على النفط وانخفاض أسعاره رافقته تحولات غير مسبوقة في الخليج؛ مواطنو هذه الدول الذين كانوا ينعمون بإعفاءات ضريبية ودعم الحكومة لأسعار السلع وتوفير الخدمات الأساسية مجانًا أو بأسعار رمزية؛ بدأوا عهداً جديداً يقوم على الضرائب والخدمات المدفوعة وسياسات الخصخصة. هذا التغيير في الدولة ومرتكزات شرعيتها وهو يقوم بهذه الانتقالات لا يهتم أو يكترث بأن هذا التغيير يتطلب بالتوازي توسيع المشاركة السياسية لهذه الشعوب وضمان مشاركتها في صنع القرار والمحاسبة.
من الرفاه إلى التقشف
تتجه سياسات دول الخليج نحو التقشف لخفض الإنفاق وسد العجز في موازناتها. بعض دول الخليج قامت برفع الدعم عن أسعار المحروقات. تشهد دولنا حالات انسحاب حكومية – تدريجياً – من دورها السابق في دعم الخدمات والسلع الأساسية. في عمان، أعلنت حكومة السلطنة في عام 2020 عن نيتها فرض ضرائب على الدخل المرتفع بحلول عام 2022. كما قامت السعودية بخفض الإنفاق الحكومي وإلغاء بعض الامتيازات للموظفين الحكوميين.
مجمل هذه التغييرات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم جذرية وذات معانٍ سياسية لا يمكن تجاوزها، الخليجي اليوم هو المسؤول عن دفع الأموال للحكومة من خلال ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة والرسوم التي تضاعفت لمعظم الخدمات. ويطرح هذا التغيير في شكل العلاقة بين المواطن والحكومة عديد التساؤلات إزاء ضرورة فتح نقاش مجتمعي جاد مسؤول حول “العقد الاجتماعي“ بين الحاكم والمحكوم. ألا تنص أبجديات الدولة الحديثة التي تفرض الضرائب وتتخطى مفهوم دولة الرعايا، على ضمان حقوق سياسية وتمثيل سياسي حقيقي لمواطنيها في الدولة ومؤسساتها؟!
كما يقال؛ لا ضرائب دون تمثيل سياسي. على الأرض، تتحدى دول الخليج هذا العُرف الاجتماعي والسياسي عبر سياسات اقتصادية منزوعة من أي إصلاحات سياسية. تتحكم حكوماتنا الخليجية بالسلطات التشريعية من خلال مجالس نواب وشوريين فقيرة الصلاحيات، على الجانب، تنمو حالة من التصدع وفقدان الثقة بين الخليجي ودولته. يسأل المواطنون عن ثروات بلدانهم؛ أين يتم إنفاقها وما مدى استفادتهم من عوائد الضرائب المفروضة عليهم.
الأجيال الجديدة: الإصلاح أولاً
تجتاج دول الخليج مشروعات إصلاحية حقيقية، عقود اجتماعية جديدة، تضمن للخليجي المشاركة السياسية الفاعلة وفرض مبدأ الشفافية والمحاسبة.
تحاول دول الخليج إعادة إنتاج ذاتها من خلال الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى مثل 2030 في السعودية والبحرين وقطر، و 2035 في الكويت و2040 في عمان ومئوية الإمارات 2071. تصدر هذه الرؤى خطابات تتهرب من الشراكة المؤسسية الفاعلة للشعوب والفصل بين السلطات نحو بدائل يصعب الرهان عليها مثل الحوكمة وشعارات الشفافية ومؤشرات قياس الأداء. جدير بالقول أن أول وأهم مثالب هذه الروى هو أن من يقوم بقياس نجاحها هو ذات الطرف المعني بتنفيذها (الحكومات نفسها).
تبدو المرحلة القادمة مليئة بالتحديات، وتحتاج دول الخليج لصيغ مختلفة من الشراكة المجتمعية في إدارة الدولة ومؤسساتها. تشكل أزمات البطالة والغلاء والضرائب ضغوطا كبيرة على الحكومات. الأهم من ذلك هو أن الأجيال الشابة لم تعد تنظر للدولة باعتبارها ذلك الكيان الأبوي الذي يجب طاعته والتسليم له دون طرح الأسئلة أو المطالبة بالحق في المشاركة السياسية التي هي حق من حقوقها.