صباح نعوش- البيت الخليجي-
تشهد المالية الخارجية البحرينية تدهوراً، ورغم تحقيق حساب الخدمات فائضاً مالياً بفعل أهمية الإيرادات السياحية إلا أن هذا الفائض لا يبدو كافيًا لسد العجز في حساب الدخل الناجم عن ترحيل أرباح الاستثمارات الأجنبية وتحويلات العمال الأجانب، بل لا يمكن تغطية العجز الجاري حتى بعد إضافة الفائض التجاري السلعي الضئيل.
صحيح أن كورونا أسهمت مساهمة فاعلة في تفاقم هذه النتائج السلبية والمزمنة، ولكن من الخطأ اختزال أزمة المالية الخارجية للبحرين بهذا الوباء. إذ يرتبط عجز الميزان الجاري بعوامل اقتصادية بنيوية وخيارات مالية حكومية، ناهيك عن الأسباب السياسية المحلية والإقليمية.
ويتمخض عن تفاعل عجز الميزان الجاري مع عجز ميزانية الدولة وضعف الإحتياطي النقدي، إرتفاع الديون العامة، حيث أصبحت الفوائد المترتبة على هذه الديون من أخطر المشاكل المالية التي تؤثر بشدة على اقتصاد البحرين برمته.
عجز الميزان الجاري
تعتمد البحرين في ميزانيتها العامة، وكذلك في تجارتها الخارجية على النفط الذي يتأتى من حقلين: حقل أبو سعفة المشترك مع السعودية، ويبلغ إنتاجه الكلي 300 ألف ب/ي، يتقاسمه الطرفان مناصفة. وحقل البحرين ويبلغ إنتاجه 50 ألف ب/ي. في عام 2020، حققت الصادرات النفطية 2232 مليون دينار، مسجلة إنخفاضاً هائلاً بنسبة 40% مقارنة بالعام السابق، ويعود السبب الأساس إلى وباء كورونا الذي أدى إلى تقليص الإستهلاك العالمي.
أما الصادرات غير النفطية التي تتجه بالدرجة الأولى إلى السعودية والإمارات والولايات المتحدة فبلغت 3055 مليون دينار. بمعنى أنها تجاوزت الصادرات النفطية لأنها لم تشهد إنخفاضاً يستحق الذكر بسبب الوباء.
أما الواردات السلعية فتنقسم إلى قسمين: نفطية من السعودية وغير نفطية خاصة من الصين وبلغت 5336 مليون دينار.
وبذلك سجل الميزان التجاري عجزاً قدره 49 مليون دينار، وهي نتيجة سيئة للغاية في بلد خليجي، إذ تحقق بلدان مجلس التعاون (باستثناء عمان) فائضًا تجاريًا يسهم مساهمة فاعلة في تمويل الحسابات الأخرى للميزان الجاري.
لكن، هذا العجز نجم عن وباء كورونا، فقد حققت السنة السابقة فائضًا وكذلك الفصل الأول من العام الجاري، وباتت الصادرات غير النفطية لهذا الفصل تعادل الصادرات النفطية.
ولابد من إبداء ملاحظتين حول التجارة الخارجية السلعية. الملاحظة الأولى تتعلق بالتجارة النفطية. فالبحرين رغم كونها منتجة للخام إلا أنها ليست مُصدّرة صافية له مقارنة بجميع البلدان النفطية في المنطقة. فهي تستورد الخام من ارامكو السعودية عبر أنبوب يربط بين البلدين ويصل إلى مصفاة بابكو لتكريره للحصول على منتجات كالبنزين والديزل ووقود الطائرات.
بحسب الجداول الصادرة عن وزارة الصناعة والتجارة والسياحة نلاحظ أن الصادرات النفطية تعادل تقريبًا الواردات من أرامكو. وعلى هذا الأساس وعلى خلاف دول مجلس التعاون الأخرى لا تتحسن بالضرورة مالية البحرين الخارجية بارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية، لأن زيادة حصيلة الصادرات الناجمة عن ارتفاع الأسعار يقابلها زيادة مماثلة في فاتورة الواردات النفطية. ولا تختل هذه المعادلة إلا في حالتين: الحالة الأولى إذا قررت السعودية منح تسهيلات تجارية للبحرين. والحالة الثانية زيادة الإنتاج النفطي، وتعقد الآمال على هذه الزيادة خاصة في ميدان النفط الصخري.
وترتبط الملاحظة الثانية بالتجارة غير النفطية. فأهمية صادراتها بالمعنى المذكور أعلاه لا تتأتى من تطور صناعي بقدر ما تنجم عن عمليات تجارية بحتة تتمثل بإعادة التصدير.
يحتل الألمنيوم بمختلف صوره المرتبة الأولى في الصادرات غير النفطية. ففي عام 2020 بلغت صادرات هذه المادة 919 مليون دينار، لكن البلد دفع 332 مليون دينار لإستيراد أكسيد الألمنيوم.
كما صدرت البحرين خامات ومنتجات حديدية بمبلغ 292 مليون دينار، لكنها استوردت وبنفس المبلغ تقريبا مثل هذه المواد. وصدرت سيارات بمبلغ 105 مليون دينار، لكنها دفعت 260 مليون دينار لإستيراد السيارات. وتنطبق هذه الملاحظة على تجارة الذهب والمجوهرات.
من ناحية أخرى، يسجل حساب الخدمات فائضاً مهماً قدره 1316 مليون دينار في عام 2019، لكنه هبط إلى النصف في عام 2020 بسبب كورونا.
تعتبر مملكة البحرين بلدًا سياحيًا بفعل طبيعتها البحرية ونظامها الاجتماعي وحضارتها العريقة. وهي تعتمد اعتماداً أساسياً على هذا المرفق، لذلك تبذل السلطات العامة جهوداً وتقدم التسهيلات لتنميته. لكن التوترات السياسية الداخلية لعبت دوراً في تقويض هذا المرفق، وكذلك الأزمة الإقليمية خاصة الصراع مع إيران وحصار قطر. كما تراجعت إيراداته بشدة نتيجة جائحة كورونا.
حسب التقرير الاقتصادي الأخير الصادر عن مصرف البحرين المركزي، أدى غلق الجسر الرابط بين السعودية والبحرين إلى هبوط عدد السياح من 12 مليون شخص في عام 2019 إلى مليوني شخص في عام 2020. أما من حيث حجم الخسائر المالية فقد وصلت إلى 108 مليون دينار شهرياً (تقديرات هيئة البحرين للسياحة والمعارض).
ورغم الوباء والتوترات يسجل حساب الخدمات فائضاً سنوياً مهمًا، وهوالحساب الوحيد في الميزان الجاري الذي يحقق هذه النتيجة الإيجابية. وهو ما يعتبر من أبرز خصوصيات المالية الخارجية للبحرين مقارنة بدول مجلس التعاون الأخرى التي تعاني من عجز مزمن في حساب الخدمات.
فعلى الرغم من كون الإمارات أكبر بلد عربي من حيث عدد السياح، إلا أن حسابها المتعلق بالخدمات يسجل عجزًا.أما في السعودية، ورغم مصروفات الحجاج والمعتمرين فأن حساب الخدمات في حالة عجز هائل ودائم.
المؤشر الثالث في الميزان الجاري البحريني هو حساب الدخل الأساسي. ويتضمن أرباح الاستثمارات البحرينية في الخارج وأرباح الاستثمارات الأجنبية في البحرين. يسجل هذا الحساب عجزاً يتجه سنوياً نحو الارتفاع، إذ انتقل من 850 مليون دينار في عام 2019 إلى 924 مليون دينار في عام 2020، أي بزيادة قدرها 8.7%.
أما الصندوق السيادي (ممتلكات) فلا يدر أرباحاً صافية كافية لسد عجز حساب الدخل الأساسي، بل تعاني هذه المؤسسة الحكومية من عدة مشاكل في مقدمتها المديونية.
المؤشر الرابع هو حساب الدخل الثانوي. وعلى خلاف الحسابات المذكورة أعلاه لا يتضمن حساب الدخل الثانوي سوى جانب واحد وهو المدين الذي يمثل تحويلات العمال الأجانب المقيمين في البحرين. وكبقية بلدان مجلس التعاون لا توجد في البحرين تحويلات لعمال بحرينيين مقيمين بالخارج. بالتالي، يبلغ عجز هذا الحساب أكثر من مليار دينار في السنة. وهو بذلك أضخم عجز في الميزان الجاري ويرهق بشدة المالية الخارجية والداخلية للبلد.
وعلى هذا الأساس فأن حاصل جمع الميزان التجاري وحساب الخدمات وحساب الدخل الأساسي وحساب الدخل الثانوي يساوي الميزان الجاري الذي يعاني من عجز قدره 1220 مليون دينار في عام 2020 أي 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه النسبة عالية بمختلف المقاييس، لكنها أيضاً مرتبطة تداعيات كورونا، إذ أن العجز في عام 2019 بلغ 298 مليون دينار.
بسبب هذا العجز المزمن للميزان الجاري تضطر الدولة إلى الإقتراض من الخارج. ومن هنا تدخل المساعدات الخليجية، فهي لم تمنح بصورة هبات مجانية بل بصورة قروض بدون فوائد.إذن، أدى تفاعل هذا العجز مع عجز الميزانية العامة إلى ارتفاع هائل وسريع للمديونية العامة.
ارتفاع الديون العامة
في مايو 2021 بلغ الإحتياطي النقدي 1439 مليون دينار. في حين وصلت الواردات السلعية للفصل الأول من هذه السنة إلى 1542 مليون دينار. بمعنى أن الإحتياطي النقدي لا يكفي حتى لتغطية الحد الأدنى المتعارف عليه وهو ثلاثة أشهر، علماً بأن الاحتياطي تضاعف قياساً بنفس الفترة من العام السابق حيث كان يعادل واردات لمدة شهر واحد فقط، مقابل أكثر من ستة أشهر في الإمارات وعمان وأكثر من عشرة أشهر في الكويت وقطر وأكثر من أربعين شهراً في السعودية. بالتالي فالبحرين من هذه الزاوية لا تختلف كثيراً عن اليمن والسودان.
كما أن تغطية العجز المالي عن طريق الاحتياطي النقدي (وهو الأسلوب المتبع عادة في دول مجلس التعاون) يعني استنزاف كامل لهذا الاحتياطي خلال سنة واحدة فقط. وهذا أمر خطير يمس القيمة التعادلية للدينار مقابل الدولار، ويفقد تماماً ثقة المستثمرين المحليين والأجانب بمالية الدولة. لذلك لا تجد المنامة بدّاً من اللجوء إلى القروض لتمويل العجز. وهكذا ارتفعت المديونية ارتفاعاً كبيراً خلال فترة قصيرة من الزمن، فقد انتقل حجمها من 1348 مليون دينار في عام 2009 إلى 11457 مليون دينار في عام 2019، أي ازدادت بمعدل قدره مليار دينار سنويا ولمدة عشر سنوات. كما تضاعفت الفوائد الناجمة عنها عشر مرات.
ثم استمرت الديون بالتصاعد فوصلت إلى 12327 مليون دينار في يوليو 2020 وإلى 13464 مليون دينار في يوليو 2021.
في عام 2007 كانت نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي تقل عن 8%. ثم ارتفعت هذه العلاقة لتصل إلى 95% في عام 2018 وإلى 129% في العام الجاري. وستبلغ حسب توقعات صندوق النقد الدولي 134% في العام القادم. ومن البديهي أن هذه النسب تمثل بالضبط نسب مديونية الفرد قياساً بمعدل دخله السنوي.
كما تتضح خطورة هذا التطور من تزايد خدمة الديون. ففي عام 2009 كانت الفوائد لا تزيد على خمسين مليون دينار عن ديون قدرها 2441 مليون دينار. وفي عام 2021 بلغت الفوائد 708 مليون دينار عن ديون قدرها 13464 مليون دينار. بمعنى آخر أن الفوائد خلال هذه الفترة انتقلت من 3.7% من حجم الديون إلى 5.2% منه. وهذا يشير إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض الجديدة خاصة الخارجية نتيجة تردي الحالة المالية للدولة. انعكس هذا التطور بصورة مباشرة على الميزانية العامة وعلى ميزان المدفوعات. كما أدى إلى تراجع درجة التصنيف الائتماني للدولة من قبل الوكالات المتخصصة.
ففي عام 2008 كانت الفوائد تعادل 0.9% من الإنفاق العام. أي لم تكن خدمة الديون تثير أية مشكلة، ثم تغيرت الأحوال بسبب تزايد العجز المالي وتدهور الموازين الخارجية.
في الوقت الحاضر أصبحت الفوائد تعادل 19.6% من نفقات الدولة. وباتت الاعتمادات المخصصة لفوائد الديون تساوي مجموع نفقات وزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة وهيئة الكهرباء والماء، وهذه من كبار مؤسسات الدولة من حيث مصروفاتها.
وهكذا غدت فوائد الديون سبباً أساسياً من أسباب ارتفاع العجز المالي. وبالنظر لضعف الاحتياطي النقدي تضطر الدولة إلى اللجوء مجدداً إلى القروض، فيتفاقم مرة أخرى حجم الديون وتتصاعد فوائدها، عندئذ يرتفع العجز المالي.
للتصدي لهذه الأزمة قررت الحكومة تقليص نفقاتها، وخاصة الدعم المباشر. بمعنى أن تمويل الفوائد يجرى عن طريق تخفيض الدعم، ولكن على الصعيد العملي سوف ترتفع الفوائد ويتراجع الدعم، وتقديرات السنة المالية القادمة وضعت على هذا النحو.
انطلاقاً مما تقدم يتعين إعادة النظر في رؤية البحرين 2030 وبرنامج التوازن المالي. فالأزمة المالية الخارجية لا تقل خطورة عن الأزمة المالية الداخلية، ولابد من اعتماد سياسة جديدة للاقتراض والمديونية تنسجم مع الحالة المالية للبلد وتستجيب لمتطلبات تنميته، ولا يتحقق ذلك إلا بالتصدي بفاعلية للأسباب التي أدت إلى العجز على الصعيدين الداخلي والخارجي.