اقتصاد » احصاءات

من النقد إلى النمو.. السيولة السعودية تمهّد لموجة استثمار جديدة

في 2025/04/20

طه العاني - الخليج أونلاين

يشهد الاقتصاد السعودي توسعاً نقدياً غير مسبوق، يجسّد تنامي مستويات الثقة في النظام المالي وتزايد النشاط الاستثماري والتجاري في البلاد.

ويأتي ذلك في سياق المسار التصاعدي للسيولة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ما يجعل من هذا النمو النقدي علامة فارقة في مرحلة التحول الاقتصادي، ويثير تساؤلات مهمة حول تأثيره على سوق العمل، والطلب المحلي، وتمويل المشاريع الوطنية الكبرى.

سيولة قياسية

في تطوّر اقتصادي لافت، سجّل الاقتصاد السعودي أعلى مستوى من السيولة النقدية في تاريخه بنهاية فبراير 2025، حيث بلغ إجمالي عرض النقود بمفهومه الشامل نحو 3,03 تريليون ريال سعودي (حوالي 809 مليارات دولار أمريكي)، وفقاً للبيانات الصادرة عن البنك المركزي السعودي "ساما"، في 10 أبريل الجاري.

ويُعد هذا الرقم مؤشراً نوعياً على قوة النمو النقدي في المملكة، إذ يمثل زيادة سنوية تبلغ 277.5 مليار ريال (نحو 74 مليار دولار) بنسبة 10.1% مقارنة بشهر فبراير من العام الماضي.

كما سجلت السيولة نمواً شهرياً ملحوظاً بلغ 67,5 مليار ريال (نحو 18 مليار دولار) بنسبة 2.3% مقارنة بشهر يناير 2025، ما يشير إلى تدفقات نقدية متزايدة تعكس حالة من النشاط المالي والاقتصادي المتصاعد.

ويرى اقتصاديون أن ارتفاع السيولة بهذا الشكل يُعَدُّ أحد المحركات الحيوية للدورة الاقتصادية، نظراً لدورها المباشر في تمويل الأنشطة التجارية والاستثمارية، وتحفيز الطلب المحلي، وتعزيز قدرة البنوك على الإقراض والتمويل، خصوصاً في ظل استمرار تنفيذ المشاريع الكبرى ضمن رؤية السعودية 2030، التي تتطلب زخماً مالياً كبيراً واستدامة في الموارد التمويلية.

كما يعكس هذا الأداء القوي ثقة المستثمرين والمستهلكين في البيئة الاقتصادية، ويشير إلى استقرار القطاع المالي، خاصة في ظل تراجع الضغوط التضخمية نسبياً وارتفاع الإنفاق الحكومي على البنية التحتية والمشاريع الاستراتيجية.

ويُتوقع أن يكون لهذا النمو في عرض النقود تأثير إيجابي على مؤشرات مثل الناتج المحلي الإجمالي، ومعدلات التوظيف، ومستويات السيولة في السوق المالي.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذا النمو يأتي في وقت تواصل فيه المملكة جهودها لتنويع مصادر الدخل، ورفع كفاءة الإنفاق، وتمكين القطاع الخاص، وهو ما يجعل من السيولة المرتفعة ركيزة أساسية لدعم المرحلة المقبلة من التحول الاقتصادي.

نمو وحذر

ويتحدث الكاتب والمحلل الاقتصادي سعيد خليل العبسي حول بلوغ السعودية أعلى مستويات سيولة في تاريخها وتأثير ذلك على اقتصادها، مؤكداً بأن هذا التدفق النقدي غير المسبوق يحمل في طياته العديد من الإيجابيات، أبرزها تحفيز النمو الاقتصادي وتشجيع الاستهلاك والاستثمار.

ويوضح لـ"الخليج أونلاين" أن هذه السيولة الضخمة المتاحة للأفراد وفي الودائع البنكية ستسعى حتماً إلى اقتناص فرص استثمارية متنوعة، وعلى رأسها البنية التحتية والمشاريع العقارية والإنتاجية والاستهلاكية والخدمية، التي تحظى برعاية واهتمام كبيرين من الجهات الرسمية.

ويشير العبسي إلى أن المشاريع الإنشائية الضخمة والأبراج الشاهقة في المملكة ما هي إلا تجسيد لهذا الاهتمام.

ويضيف أن هذه السيولة ستُمكّن المواطنين والقطاع الخاص من الاستفادة من مدخراتهم والتسهيلات البنكية لتطوير أعمالهم ومشاريعهم، مما سينعكس إيجاباً على نمو وتطور الاقتصاد وانتعاش الأسواق.

ويرى العبسي أن المملكة مدركة للتداعيات المحتملة لتضخم السيولة، وعلى رأسها زيادة الطلب على السلع والخدمات وما قد يصاحبها من ارتفاع في الأسعار إذا لم يقابلها زيادة في العرض.

ويؤكد بأن المملكة تعمل على مراقبة مستويات السيولة واتخاذ السياسات المناسبة لضمان استقرار الأسعار والنمو الاقتصادي الشامل.

كما يلفت العبسي إلى وعي المملكة بأنه في حال لم يقابل تضخم السيولة نمو إنتاجي أو إجراءات نقدية مناسبة، فقد يزيد التضخم، خاصة في قطاعي العقار والخدمات.

ولهذا السبب، تتبنى المملكة سياسات مالية ونقدية متوازنة، مثل رفع أسعار الفائدة أو امتصاص السيولة الزائدة عبر أدوات استثمارية، لمواجهة مثل هذه الاحتمالات، كما يؤكد العبسي.

تركيبة السيولة

في سياق النمو التاريخي للسيولة النقدية بالمملكة، تُظهر بيانات البنك المركزي السعودي (ساما) أن مكوّنات عرض النقود بمفهومه الواسع تعكس توزيعاً متوازناً يعزز من مرونة النظام المالي ويخدم مختلف أوجه النشاط الاقتصادي.

وتصدّرت الودائع تحت الطلب قائمة المكونات بنسبة 48.5% من إجمالي السيولة، بقيمة تجاوزت 1,47 تريليون ريال سعودي (نحو 394.9 مليار دولار)، مما يؤكد اعتماد الأفراد والقطاعات الاقتصادية بشكل كبير على الأدوات السائلة الجاهزة للإنفاق أو الاستثمار الفوري.

وتُعد هذه الودائع من أكثر أدوات السيولة ديناميكية، نظراً لإمكانية سحبها أو تحويلها دون قيود، ما يمنحها دوراً محورياً في دعم الإنفاق الاستهلاكي والتشغيلي داخل السوق المحلي.

وجاءت الودائع الزمنية والادخارية في المرتبة الثانية بقيمة 1,03 تريليون ريال (حوالي 276 مليار دولار)، مساهمةً بنسبة 34% من إجمالي السيولة.

ويعكس هذا الحجم الكبير من الودائع ذات الآجال المحددة تنامي الثقافة الادخارية لدى الأفراد والمؤسسات، كما يشير إلى توفر مصادر تمويل طويلة الأجل تُمكّن البنوك من توجيهها نحو القروض والاستثمارات التنموية.

أما الودائع الأخرى شبه النقدية، والتي تشمل ودائع المقيمين بالعملات الأجنبية، والودائع مقابل الاعتمادات المستندية، والتحويلات القائمة، وعمليات إعادة الشراء (الريبو)، فقد بلغت 293.68 مليار ريال (حوالي 78.2 مليار دولار)، بما يمثل %9.7 من إجمالي السيولة.

وتلعب هذه الودائع دوراً هاماً في ربط النظام المصرفي المحلي بالتعاملات الدولية، وتعكس درجة الانفتاح المالي وتنوع الأدوات المتاحة في السوق المصرفي.

وفي المرتبة الرابعة، جاء النقد المتداول خارج المصارف بقيمة 237.9 مليار ريال (نحو 63.9 مليار دولار)، مشكّلاً نسبة 7.8% من إجمالي عرض النقود، ويمثل هذا البند النقود الورقية والمعدنية المتاحة فعلياً بيد الأفراد والمؤسسات، وغالباً ما يُعد مؤشراً على حجم التعاملات النقدية المباشرة في الاقتصاد.

ويعكس هذا التوزيع المتوازن لمكونات السيولة مرونة النظام النقدي في المملكة، وتنوع مصادر النقد بما يدعم كفاءة السياسة النقدية، ويُعزّز من قدرة الاقتصاد على التفاعل السريع مع التغيرات المحلية والعالمية.

دلالات اقتصادية

وتشير المستويات القياسية الحالية للسيولة في الاقتصاد السعودي إلى مدى اتساع نطاق النشاط الاقتصادي بمختلف قطاعاته، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على مؤشرات حيوية مثل ارتفاع معدلات التوظيف، وانخفاض نسب البطالة، وزيادة دخول الأفراد، سواء عبر تحسين الرواتب أو عبر فتح فرص جديدة للمواطنين في القطاعين العام والخاص.

ووفق تحليل أعدّته صحيفة "الاقتصادية" السعودية في 6 مارس 2025، فإن المسار التاريخي لعرض النقود (ن3) يُظهر نمواً مطّرداً على مدى العقود الثلاثة الماضية.

فمنذ عام 1993، حين كان حجم السيولة عند مستوى 60.5 مليار دولار فقط، شهد العرض النقدي تضاعفاً كبيراً، ليتجاوز حاجز 715 مليار دولار بنهاية عام 2023، قبل أن يسجّل القفزة الأكبر هذا العام.

ويُظهر هذا التسارع في النمو النقدي مدى التحول الهيكلي الذي شهده الاقتصاد السعودي، خصوصاً في ظل تنفيذ برامج التحفيز والاستثمار الكبرى، وتعزيز كفاءة الإنفاق العام، وزيادة مشاركة القطاع الخاص، بما يتماشى مع مستهدفات الرؤية السعودية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النمو في عرض النقود يعكس في جوهره ثقة الأفراد والمؤسسات في النظام المالي، ويُعدّ بيئة خصبة لتعزيز الابتكار، وتمويل المشروعات، وتحقيق المزيد من المكاسب الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل.