اقتصاد » احصاءات

بين الثقة والتحوّط.. دلالات توسع الإمارات في سندات الخزانة الأمريكية

في 2025/12/27

طه العاني - الخليج أونلاين

تعكس تحركات المحافظ السيادية في أسواق الدين العالمية مؤشرات دقيقة على متانة الأوضاع المالية وقدرة الاقتصادات على إدارة الفوائض والمخاطر في آن واحد.

وفي هذا السياق تبرز دولة الإمارات كفاعل نشط في سوق السندات الأمريكية، في خطوة تحمل دلالات تتجاوز الاستثمار المالي إلى الثقة والاستقرار طويل الأجل.

توسّع سيادي

وفي تحرك لافت يخالف الاتجاه العام لتراجع حيازات الأجانب، عززت الإمارات حضورها في سوق سندات الخزانة الأمريكية، بما يعكس استراتيجية استثمارية مدروسة في واحدة من أكثر أدوات الدين أماناً وسيولة عالمياً.

ورفعت الإمارات حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية إلى 110.7 مليار دولار بنهاية أكتوبر 2025، بعد مشتريات شهرية بلغت نحو 7.5 مليار دولار، وفق بيانات وزارة الخزانة الأمريكية الصادرة ضمن تقرير الحيازات الدولية (TIC).

وعلى أساس سنوي، تظهر البيانات توسعاً حاداً في التعرض للسندات الأمريكية، إذ زادت حيازة الإمارات بنحو 42.4 مليار دولار مقارنة بمستواها في أكتوبر 2024 البالغ 68.3 مليار دولار، ما يعكس تسارع وتيرة الاستثمار خلال عام واحد، رغم التقلبات التي شهدتها أسواق الدين العالمية.

وأشارت صحيفة اقتصاد الشرق مع بلومبيرغ في 19 ديسمبر 2025، إلى أن مستوى أكتوبر يمثل أحد أعلى مستويات الحيازة الإماراتية خلال 2025، مع تسجيل ذروتين سابقتين في فبراير عند 119.9 مليار دولار، وأبريل عند 112.9 مليار دولار، ما يشير إلى إدارة نشطة للمحفظة السيادية تقوم على التوقيت وإعادة التوازن، وليس مجرد الاحتفاظ السلبي بالأصول.

وتكتسب هذه الزيادة أهميتها من كونها جاءت في شهر اتسم بتراجع إجمالي حيازات المستثمرين الأجانب من السندات الأمريكية، ما يضع التحرك الإماراتي في خانة القرار الاستثماري المستقل القائم على اعتبارات الاستقرار والعائد والتحوط، وليس مجرد انعكاس للاتجاهات السائدة في السوق.

ويأتي هذا التوسع بعد أن سجلت حيازة الإمارات مستوى 79.2 مليار دولار في أغسطس 2024، والذي عُدّ حينها الأعلى منذ بداية 2020، ما يؤكد أن الزيادة الحالية ليست طفرة مؤقتة، بل امتداد لمسار تصاعدي مدروس في إدارة الأصول السيادية.

إعادة تموضع

وتأتي الزيادة الإماراتية في توقيت حساس تشهده سوق السندات الأمريكية، مع تراجع إجمالي الحيازات الأجنبية وتصاعد الجدل حول مستقبل الطلب الخارجي على الدين الأمريكي.

وأظهرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية أن إجمالي حيازات الأجانب من سندات الخزانة انخفض خلال أكتوبر 2025 بنحو 5.8 مليارات دولار، ليستقر عند 9.24 تريليونات دولار، في انعكاس لاتجاه عام اتسم بالحذر وإعادة تقييم مراكز الاستثمار في أدوات الدين الأمريكية.

وفي قلب هذا التراجع، واصلت الصين تقليص تعرضها للسندات الأمريكية، إذ خفضت حيازتها بمقدار 11.8 مليار دولار لتصل إلى 688.7 مليار دولار، وهو أدنى مستوى منذ 2008، ما يعكس تحولاً هيكلياً في استراتيجية بكين تجاه الأصول الدولارية.

في المقابل، سجلت اليابان، أكبر حائز أجنبي لسندات الخزانة الأمريكية، زيادة شهرية قدرها 10.7 مليارات دولار لترتفع حيازتها إلى نحو 1.2 تريليون دولار، وهو أعلى مستوى منذ يوليو 2022.

كما عززت المملكة المتحدة حيازتها بمقدار 13.2 مليار دولار لتصل إلى 877.9 مليار دولار، في مؤشر على تباين واضح في توجهات المستثمرين الكبار.

وعلى الصعيد الخليجي، حافظت السعودية على استقرار حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية عند 134.4 مليار دولار خلال أكتوبر على أساس شهري، ما يعكس نهجاً أكثر تحفظاً مقارنة بالتحرك الإماراتي التصاعدي.

وتخضع تحركات حيازات السندات الأمريكية لتدقيق متزايد في 2025، وسط مخاوف من موجة مبيعات أجنبية محتملة، إلا أن وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، واصل نفي ما يُعرف بسردية "بيع الأصول الأمريكية"، معتبراً أن ما يجري يعكس إعادة تموضع وتحوطاً أكثر منه تخارجاً منظماً من السوق.

أداة استراتيجية

ويقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي أحمد صدام إن الإمارات تنظر إلى حيازة السندات الأمريكية كأداة تحوط استراتيجية، وليس كأداة تداول مرتبطة بتوقعات أسعار الفائدة.

ويضيف لـ"الخليج أونلاين" أن هذا النهج يختلف عن باقي المستثمرين، حيث لا تتوقع الإمارات مخاطر وشيكة على الدولار كعملة احتياط، على عكس الصناديق الأخرى التي تقلق من تقلبات العملة أو تراجعها.

ويعتقد صدام أن حيازة الإمارات للسندات الأمريكية تسهم في تعزيز متانة الدرهم الإماراتي خلال فترات التوتر المالي، مبيناً أن هذا يعزز قدرة المصرف المركزي على توفير احتياطيات مالية مستقرة ومرنة على المدى الطويل، ما يعكس قوة السياسة النقدية الوطنية.

ويشير إلى أن السندات الأمريكية تمثل دعامة أساسية لرفع مستوى المصداقية الدولية، إذ تندمج السياسة النقدية الإماراتية بشكل أكبر ضمن النظام المالي العالمي، وذلك يُعد عاملاً مهماً لجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة في الاقتصاد الإماراتي على المدى الطويل.

ويرى الخبير الاقتصادي أن زيادة حيازة الإمارات للسندات الأمريكية قد تؤثر على قرارات الاستثمار في دول الخليج الأخرى، كون الإمارات تصبح مرجعاً لتقييم المخاطر في أوقات عدم اليقين.

ويؤكد صدام أن هذا لا يعني إعادة رسم استراتيجيات باقي دول المجلس بالكامل، لكنها بالتأكيد ستأخذ التوجه الإماراتي بعين الاعتبار في صنع قراراتها الاستثمارية.

سياسة نقدية

ويرتبط التوسع في حيازة الإمارات من سندات الخزانة الأمريكية مباشرة بإطار السياسة النقدية وإدارة الاحتياطيات الأجنبية، التي يُديرها مصرف الإمارات المركزي بوصفها خط الدفاع الأول عن استقرار العملة والنظام المالي.

وتُظهر أحدث البيانات الرسمية لمصرف الإمارات المركزي أن الاحتياطيات الأجنبية لدولة الإمارات بلغت 991.6 مليار درهم (نحو 270 مليار دولار) في أكتوبر 2025، يُوظَّف جزء معتبر منها في أصول منخفضة المخاطر وعالية السيولة، وفي مقدمتها سندات الخزانة الأمريكية.

ويأتي هذا التوجه في سياق الحفاظ على ربط الدرهم بالدولار عند مستوى 3.67 درهم للدولار، وهو نظام يتطلب أصولاً دولارية تغطي القاعدة النقدية، بما يتيح للمصرف المركزي التدخل الفوري عند الحاجة وضمان استقرار سعر الصرف.

ولا يُنظر إلى هذه الاستثمارات بوصفها بحثاً عن العائد فقط، بل كأداة لإدارة السيولة، توفر عائداً سنوياً يصل إلى 4.5% على آجال متوسطة، بما يساهم في تغطية تكاليف السياسة النقدية، مع الحفاظ على انسجام السياسة المالية والنقدية مع توجهات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

ويعكس هذا النهج نموذجاً متماسكاً للسياسة النقدية الإماراتية، يقوم على تحصين الاستقرار المالي وتقليص مخاطر الصدمات الخارجية، ويُفسّر استمرار الاعتماد على السندات الأمريكية كركيزة أساسية ضمن هيكل الأصول السيادية.