كان أول لقاء صحفي لولي ولي العهد السعودي في العام المنصرم، مع مجلة الإيكونومست، نقطه البداية لإعلان التوجه الاقتصادي السعودي الجديد.
بعد ذلك، توالت الأخبار على فترات متقاربة، عن طريق وسائل إعلام أجنبية تحديداً، لتُبيّن ملامح التغيير الاقتصادي الجديد بصورة أوضح، إلى أن تمّ إعلان «الرؤية السعودية 2030» في العام نفسه.
آتت الرؤية بأرقام تستند عليها كأساس في صياغة برامجها، وبأرقامٍ أخرى جعلتها أهدافاً على مدى الخمسة عشر عاماً المقبلة.. من دون إيضاح منهجية البحث والدراسة التي أدت إلى كل تلك النتائج والمعايير.
الحجر الأساس للرؤية هو الإستراتيجية التي تنوي الدولة إتباعها لتخليص الاقتصاد السعودي من الاعتماد الكلي على النفط. بدا المسئولون واثقين من الرؤية إلى درجه أنّ الأمير «محمد بن سلمان» صرح في لقاء تلفزيوني أن المملكة تستطيع بعد خمسه أعوام أن تستمر «بدون نفط».
هل الريع إنتاج؟
منذ ارتفاع أسعار النّفط في أواسط سبعينيات القرن الفائت، شكّلت العملة الصعبة، أو الدولارات المتدفقة جرّاء عمليّة بيع النّفط، القوام الأساس للقطاعين العام والخاص في السعودية. تُستعمل تلك الأموال في القطاع العام عن طريق المصروفات الحكومية في قطاعات مختلفة مثل التّعليم والصحّة وسواهما.
ويعاد ضخّ جزء آخر من تلك العوائد في القطاع الخاص الذي يعتمد بشكلٍ كلي على الإنفاق الحكومي، عن طريق مشاريع حكوميّة تتعهّد تنفيذها كبرى شركات القطاع الخاص التي تشغِّل معها المنشآت الأصغر فالأصغر. ثم يعاد إرسال الأموال نفسها مرّة أخرى إلى الخارج عن طريق استيراد ما يُستهلك من سلع وخدمات في الداخل السّعودي.
بالنسبة للرّؤية تلك، فقدوم العملة الصّعبة من خارج السعودية إلى داخلها هو الإشكال الأساسي، باعتبار أنّ المال يأتي مقابل مصدر وحيد للدّخل هو النّفط. وبناء على هذا التشخيص، وضعت الرؤية واستراتيجيتها التي تهدف لتنويع مصادر الدّخل. والخلل في التشخيص هو إغفال الطبيعة «الريعية» لمصدر الدخل قبل التركيز على تنوع مصادره.
والمقصود بالريع هنا هو الحصول على عوائد مالية دون بذل مجهود بشري. حتى في الصناعة النفطية التي يمتلك العرب فيها مقومات التفوق والتي تمر بمراحل عدة كالاستكشاف والتنقيب والاستخراج والنقل البري والبحري والتكرير والتخزين والتوزيع.. لا تملك السعودية، كغيرها من الدول العربية، إلّا حقوق قانونية وسياسية «غير مكتملة» على بعض أجزاء تلك الصناعة.
فلو أن بلداً ما «ينتج» سلعة واحدة فقط، قطع غيار سيارات أو أدوات منزلية مثلاً، ويعتمد اقتصادياً على إيرادات تصديرها للخارج، تصبح الخطوة المنطقية التالية هي تنويع خطوط الإنتاج لتخفيف خطر الاعتماد على منتَج وحيد. ولكن وضع الاقتصاد السعودي هو ما دون ذلك بكثير.
«الرؤية السعودية» تتجاهل مشكلة الريع بكل آثارها السلبية على المجتمع، وتعتبر «الريع» من بيع النفط عملية إنتاج، ثم تقفز إلى نقطة تنويع مصادره دون أن تقدم أي علاج حقيقي لمشكله الإخفاق في إنتاج قيمة مضافة بشكل مستدام.
وتتعقد المشكلة الريعية أكثر بسبب طبيعة النفط. فهو ليس ريعاً مستمراً مثل الريع العقاري الآتي من أماكن جغرافية مميزة وإن تغيرت أماكنها، بل هو يوجد بكميات محدودة ستنفذ في العقود القليلة المقبلة. وليس خطر النفاذ هو الوحيد، بل قد يصبح استخراج النفط عديم الفائدة عندما تصبح قيمته أقل من تكلفة استخراجه.
تـنـويـع؟
تحت بند تنويع مصادر الدخل، سلكت الحكومة السعودية اتجاهين رئيسيين: الأول من خلال صندوق الاستثمارات العامة، عبر شراء حصص في شركات وصناديق استثمارية. على سبيل المثال، اشترت السعودية حصصاً في صندوق التقنية العالمي «سوفت بنك» بقيمة 45 مليار دولار، وأسهم في شركة «أوبر» بقيمة 3.5 مليار دولار.
يروّج لخطوات كهذه على أنها مشاريع لتنويع مصادر الدخل، ولكن في حقيقتها ليست إلا امتداداً لعملية الاعتماد على اقتصاد الريع بكل سلبياته الاجتماعية والسياسية.
وإلا أين هو التغيير الجوهري، إذا كانت عوائد النفط تأتي بدون مجهود بشري ينتج قيمه مضافة، وعوائد الاستثمارات تأتي أيضاً بدون ذلك الجهد؟ ما الذي سيجنيه السعوديون مقابل امتلاك حصص استثمارية؟ هل سيساهمون في بحوث التقنية والتكنولوجيا سعياً لامتلاك ولو القليل منها؟
هل سيشاركون ولو بالقدر القليل في إدارة تلك الاستثمارات؟ هل توفر الاستثمارات الخارجية مستوى من الأمان يليق باقتصاد دولة؟ على سبيل المثال، خسر صندوق الثروة السيادية القطري 12 مليار دولار في 2015 فقط، تعود لثمانية استثمارات من أصل عشرة يملكها الصندوق.
وفي منحى آخر، سلكت الحكومة السعودية طريقاً أكثر خطورة بغرض زيادة الدخل غير النفطي. فتم فرض ضرائب بصورة غير مباشرة عن طريق زيادة رسوم الخدمات الحكومية.
وفي السياق ذاته بُدِء بعملية رفع الدعم الحكومي تدريجياً عن السلع والخدمات الضرورية بهدف الوصول الى السعر العالمي لها في عام 2020. تصرح الحكومة في بياناتها الرسمية وميزانيتها أن ما تجنيه وتوفره من مال الضرائب ورفع الدعم هو دخل غير نفطي. وحقيقة الأمر أن مصدر تلك الأموال لم يتغير، بمعنى أنها دخلت إلى البلد مقابل النفط، والجديد هو جبايتها مره أخرى من جيوب المواطنين.
هناك مشكلة أخرى: أبرز الأصوات المنتقدة للرؤية هي أصوات نيوليبرالية التوجه بطريقة إيديولوجية لا تعرف من الحلول (التي ترددها في كل مناسبة) سوى مجموعة من المقترحات كالسياسة النقدية، والخصخصة، والقضاء على عجز الموازنة العامة إلخ..
وهي ليست على خلاف في الجوهر مع «الرؤية»، ولا تقوم بنقد اقتصادي سياسي لها يهدف لتطوير وسائل الإنتاج التي، إذا لم توجد وتتطور، فلن يكون هناك أي تغيير في المجتمع والدولة.
علي طراد- السفير العربي-