على الرغم من أنّ المملكة العربية السعودية قد شهدت بعض التحسن الاقتصادي في الآونة الأخيرة، تبقى أبعد ما يكون عن الخروج من الأزمة. ومع ذلك، قررت المملكة إنهاء تخفيضات الرواتب في القطاع العام واستعادة العلاوات لموظفي الخدمة المدنية والعسكريين. ويأتي هذا بعد سبعة أشهر فقط من تطبيق إجراءات التقشف، ويعني هذا أنّ الرياض لا تستطيع تحمل التكلفة السياسية. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة للجهود التي يبذلها الكثيرون لإصلاح الاقتصاد السياسي في المملكة.
وفي 22 من شهر أبريل/نيسان، أعاد الملك «سلمان بن عبد العزيز آل سعود» العلاوات بعد ارتفاع إيرادات عام 2016، الأمر الذي أدى إلى انخفاض عجز الميزانية من 98 مليار دولار عام 2015 إلى 79 مليار دولار في العام الماضي. ووفقًا لبيانٍ صحفيٍ صدر عن وكالة الأنباء السعودية الرسمية، تمكن السعوديون من خفض عجزهم المتوقع إلى النصف خلال الربع الأول من عام 2017. كما أقال الملك «سلمان» وزير الخدمة المدنية وأمر بإجراء تحقيق في مزاعم اتهامات موجهة إليه بإساءة استخدام منصبه. وأصدر الملك مرسومًا يقضي بدفع راتب شهرين إضافيين لأفراد القوات المسلحة المشاركين في الحرب في اليمن.
وفي خطوةٍ لم يسبق لها مثيل في سبتمبر/أيلول الماضي، قرر النظام السعودي تطبيق تدابير تقشفية بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط. وقد أثرت هذه التدابير على مئات الآلاف من السعوديين الذين يشكلون ثلثي القوى العاملة الوطنية. وكان الأساس المنطقي للحكومة للتغيير المفاجئ في عكس الإجراءات الآن هو أن تحسين الدخل لموظفي الحكومة من شأنه أن يحفز النمو. ومع ذلك، فإنّ الواقع يؤكد أنّ البدلات والعلاوات تعد استنزافًا كبيرًا لموازنة المملكة.
ويواصل السعوديون خفض الإنفاق في مجالاتٍ أخرى. وفي منتصف شهر أبريل/نيسان، ذكرت وكالة رويترز أنّ مكتب ترشيد الإنفاق، الذي أنشأته الرياض العام الماضي، كان يبحث توفير مليارات الدولارات من خلال مشاريع الإصلاح والتنمية. وهذا يعني أنّ النظام السعودي على استعداد لتحمل التكلفة المالية لتعيين الموظفين العموميين والعسكريين. وكان مجلس الوزراء قد أعلن، في 3 من شهر أبريل/نيسان، عن زيادة في الرواتب بنسبةٍ تصل إلى 60% بالنسبة للطيارين بالقوات الجوية التي تقوم بالعديد من عمليات التحليق في اليمن، في عمليات التحالف العسكري الذي تقوده السعودية ويضم بعض دول الخليج لإعادة تنصيب الحكومة المعترف بها دوليًا.
التقشف الانتقائي
وقد أدرك السعوديون أنّهم لن يتمكنوا من مواصلة حملة التقشف جملةً واحدة لفترةٍ طويلة، وكان عليهم أن يكونوا انتقائيين بشكلٍ استراتيجي، وأن يعيدوا الأموال المستقطعة من مجموعاتٍ حساسة سياسيًا. و في الواقع، لم يكن خفض البدلات والعلاوات مخططًا، على الأرجح، ليكون تدبيرًا طويل الأجل. وعلى الرغم من أنّ الرياض لم تكن تعرف متى ستعيد الأمور إلى ما كانت عليه، إلا أنّها أرادت أن تفعل ذلك مع أول علامة على الاستقرار المالي. ويرجع ذلك إلى أنّ العقد الاجتماعي للمملكة قد أسس بطريقة تمكن المواطنين على مدى عقود من الاعتماد على الحكومة لدفع معظم احتياجاتهم.
وتاريخيًا، سمحت عائدات النفط للسعوديين بتحمل هذا النوع من الإنفاق. وقد خلق هذا أسلوبًا معينا للعيش لدى الشعب يستحيل تغييره. وتشكل إجراءات التقشف جزءًا من برنامج الإصلاح الذي يقوده ابن الملك وولي ولي العهد «محمد بن سلمان». وبوضع الأهداف العليا جانبًا، يدرك السعوديون أنّه من الصعب للغاية تغيير النظام السياسي الاقتصادي الفريد القائم على دولة الرفاهية التي تلبي جميع احتياجات المواطن العادي تقريبًا.
وينطوي الإلغاء التام لهذه الحوافز المالية على مخاطر كبيرة في ظل المناخ الإقليمي الحالي في العديد من الدول العربية التي تتسم بالاضطرابات الداخلية وتعاني من التمرد المسلح. ومن الجدير بالذكر أنّه لم تتأثر أي من الدول الملكية حتى الآن بهذه العدوى. ويود السعوديون أن يظلوا على هذا النحو، وهم يعرفون أنّ السبيل الوحيد لمنع الاضطرابات هو الحفاظ على النظام النفعي القائم. ومع ذلك، فإنّ النظام على الأرجح لا يشعر بالقلق من أن يخرج موظفو القطاع العام إلى الشوارع، معتبرًا أنّ هؤلاء الموظفين يعتمدون على الحكومة في توفير سبل معيشتهم.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ الأفراد العسكريين استعادوا التخفيضات التي استقطعت من رواتبهم أيضًا. وهذا يعطي بعض الدلائل حول خشية الحكومة السعودية من عدم الولاء بين موظفي الخدمة المدنية أو داخل الجيش. ولا تريد الحكومة المخاطرة بذلك.
مقايضة السياسية والاقتصاد
ولقد كان النظام يروج لفكرة أنّ النشاط السياسي من أي نوع قد يقود البلاد نحو مصيرٍ مماثل لما هو عليه في ليبيا وسوريا واليمن. وقد بنى سمعته أيضًا على اهتمامه ورعايته لاحتياجات شعبه. ولا يمكن للرياض أن تتحمل النظر إليها على أنّها قد أهملت هذه المسؤولية.
وحدثت مقايضة ضمنية بين السياسة والاقتصاد، بحيث لا يشارك الجمهور في العمل السياسي مقابل اعتناء النظام باحتياجاته الاقتصادية. وهذا بدوره يعطي النظام مزيدًا من الاستقرار. وبينما كان الدين ركيزةً أساسية لشرعية النظام السعودي، كانت قدرته على توفير الخدمات الاقتصادية للجمهور ركيزةً أخرى.
النظر إلى الحكام السعوديين على أنّهم غير قادرين على الوفاء بالعقد الاجتماعي التاريخي، يمثل هذا تهديدًا أمنيًا كبيرًا داخل الدولة. وقد يفتح تآكل الثقة في قدرة الفصيل الحالي من العائلة المالكة (الملك وعشيرته وحلفائه) الباب أمام الفصائل الأخرى للتفكير في الانقلاب، الأمر الذي يفسر لماذا تم إيلاء اهتمام خاص لضمان إبقاء القوات المسلحة راضية وسعيدة. وبالتالي فإنّ قرار إعادة هيكل الرواتب وتقديم المكافآت والعلاوات هو مؤشر مبكر على أنّ الإصلاحات الاقتصادية قد لا تكون ممكنة بسبب التضحية السياسية التي تنطوي عليها، الأمر الذي يضع النظام السعودي في موقفٍ صعبٍ للغاية.
جيوبوليتيكال فيوتشرز- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-