تنبثق فلسفة التأمين الصحي للمواطنين من رؤية مؤداها أن الرعاية الصحية للمواطن بما تتضمنه من خدمات ورعاية وعلاج هي من أُسس التنمية، بل وعمقها البنيوي، على اعتبار أن المواطن السليم المكفول في رعايته الصحية وخدماته الوقائية والعلاجية هو نواة التنمية وثمرتها، فإذا كانت النواة سليمة وصحيحة كان الثمر كذلك والعكس صحيح، فالمواطن السليم هو من يقوم بالبناء والتشييد والتعليم والتطبيب والدفاع عن الوطن في كافة جبهاته الوطنية الداخلية والخارجية، وبقدر ما تكون الرعاية للنواة يكون العطاء والبذل والولاء.
من هذا المنطلق استمرت منظومة الرعاية الصحية البريطانية لمواطنيها لأكثر من ستين عاماً، والتي بدأت منذ عام 1948 في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية كمكافأة للمواطنين وتحفيز لهم على الْمُضي قُدماً في عملية البناء والنهضة لوطنهم ومجتمعهم بعدما شهده من تعثر ودمار إبان الحرب العالمية، وذلك إيماناً بأن المواطن هو أساس التنمية وجوهرها، وبه تـَبْنِي الدولة حضارتها ومجدها، وحيث إن التأمين الصحي البريطاني المجاني الشامل يعتبر نموذجاً ناجحاً على مستوى العالم في آليته ودقة تطبيقه بجميع تفاصيله وقوة إدارته الصحية، وبما يشمله من جميع شرائح المجتمع على اختلاف ثرواتهم ومداخيلهم، وما يتضمنه من استثناءات وامتيازات إضافية تتمتع بها بعض الفئات من المواطنين، مثل من هم دون 18 سنة، ومن بلغوا الستين عاماً، ومن يعانون من أمراض مزمنة والعاطلين عن العمل ومشمولي الضمان الاجتماعي، وغير ذلك من الامتيازات والتفاصيل التي يضيق المجال عن شرحها وتفصيلها، والتي تستحق التقدير والاهتمام للاستفادة منها كتجربة ناجحة ونموذج يُحتذى به على مستوى دول العالم.
ولعله من المفيد أن نعرف أن مظلة التأمين الصحي البريطاني الشامل لمواطنيها البالغ عددهم 64.7 مليون نسمة (2015) وما يتضمنه من رعاية وعلاج مجاني منقطع النظير، لم يكن مصدر تمويله الأساسي من خزينة الدولة وموازنتها، وإنما كان مصدره الأساسي من الضرائب المفروضة على العمال والموظفين حسب نسب رواتبهم، أي أن منبع تمويله هو الشعب، ويتم دعمه كذلك من التجارة واستثمارات الدولة الاقتصادية ومداخيلها المختلفة، وعلى الرغم مما وجده النظام من احتجاج بعض الأطباء والهيئات الصحية في بدايته، غير أن الحكومة استطاعت إقناع الجميع بتطبيق النظام الذي يضمن رعاية صحية كاملة لجميع المواطنين دون اعتبار للأموال التي يملكونها أو الثروات التي يتمتعون بها، ومن هنا يعتبر نظام التأمين الصحي البريطاني الشامل جوهر الحياة البريطانية وفخرها، فهو من مال الشعب وإليهم ترجع خدماته في أفضل مستوى صحي وتخصصي شامل، ودور الحكومة فيه هو مجرد تنظيم الإنفاق، وقد بلغ حجم تمويل القطاع الصحي 145 مليار جنيه إسترليني من موازنة الدولة السنوية، وذلك في الفترة من أبريل 2016 إلى مارس 2017، وبزيادة 3% عن العام السابق، والذي جعله يحتل المرتبة الثانية بعد قطاع التأمينات الاجتماعية الذي بلغ تمويله 240 مليار جنيه إسترليني من الميزانية المالية لنفس الفترة وبزيادة 4% عن العام السابق، ومن ذلك المبلغ يتولى القطاع الصحي تحمل كافة تكاليف ذلك القطاع ومسؤولياته بما يتضمنه من رواتب أطباء وممرضين وإداريين وبناء مستشفيات وصيانة مبان وإنشاء كليات ومراكز للتدريب ومعاهد تمريض، بالإضافة إلى ما يقدمه من رعاية صحية كاملة للمواطنين بكامل ما تتضمنه خدماتها الطبية من رعاية ووقاية وعلاج وأدوية وعمليات جراحية مختلفة ومراكز صحية منتشرة في كل منطقة وحي، هذا إلى جانب المتابعة والزيارات المنزلية الإضافية لبعض الفئات التي تتطلب ذلك، وغير ذلك من التفاصيل المثيرة للإعجاب والتقدير، وكل ذلك في ظل إدارة تلتزم بخطوط الدولة في تنفيذ قواعد النظام الصحي المبني على إستراتيجية وطنية قائمة على أن التأمين الصحي قاعدة للتنمية ولا يحتاج إلى تجارة ومضاربة وشركات تأمين للمواطن، لأن ذلك يناقض فكرة وفلسفة الدولة في رعايتها وضمانها للمواطن السليم من المهد إلى اللحد، وأن التأمين الصحي يستهدف تهيئة المواطن السليم لسوق العمل وما يبادر به من إبداع وتفوق يسهم به في بناء المجتمع وتنميته.
وفي ضوء ذلك تفاءل المعلمون باستئثارهم كمواطنين بالتأمين الصحي الاختياري الذي تم التصريح به من قبل وزارة التعليم، ولكن ما إن استتبِع ذلك التصريح بالتفصيل لطبيعة التأمين وآليته في 27 /5 /1438، حتى تفاجأ المعنيون بالتأمين الاختياري، وأن وزارة التعليم ما هي إلا مجرد وسيط تجاري ما بين شركة التأمين التي تم التعاقد معها من قبل الوزارة والتي ستبدأ عملها مع نهاية أبريل 2017، وبين الطرف المؤمن عليه وهو المعلم أو المعلمة، بحيث تكون الوزارة في مأمن من أي مسؤوليات أو مطالبات مادية أو قانونية، وتكون العملية بين المعلم وشركة التأمين، وذلك مقابل مبلغ يستقطع من راتب المعلم تتحدد قيمته بناء على الشريحة التي ينضوي تحتها والتي تتدرج شرائحها من الماسية كحد أعلى إلى البرونزية كحد أدنى، وبتفاصيلها المختلفة التي تم نشرها في وسائل الإعلام المختلفة بناء على ما تم توضيحه من مسؤولي وزارة التعليم، وبينما يتجادل البعض حول جدوى ذلك التأمين وأهميته تبادرنا وزارة العدل في 28/ 5/ 1438، بأطروحة مماثلة لمنسوبيها وأُسرهم بالتأمين الاختياري، وذلك جميعه وفق نظام مجلس الضمان الصحي التعاوني الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/10 والذي يغطي نفقات المؤمن عليهم بموجب ما تتضمنه وثيقة التأمين من تفصيلات واستثناءات في التغطية مُقرة من مجلس الضمان الصحي التعاوني.
وحيث إن التوجه الوطني العام نحو الخصخصة في كثير من القطاعات، ومنها التعليم في بعض مسؤولياته والصحة في خدماتها ورعايتها، وفي ظل ما تم طرحه من قبل وزارة التعليم ووزارة العدل حول التأمين الصحي الاختياري فالتساؤل المطروح، ألا يستحق جميع المواطنين التأمين الصحي الشامل، وليس الاختياري كما تم طرحه من مسؤولي الوزارتين؟! أليس المواطن هو أداة التنمية ووسيلتها وغايتها؟! أليس الصحة والتعليم هما أهم أُسس وقواعد التنمية البشرية الوطنية المستهدفة؟! ألا يمكن أن نستفيد من تجارب دول متقدمة مثل بريطانيا كنموذج في تطبيق تأمين صحي شامل للمواطنين؟! لماذا نلجأ دوماً إلى برامج مستجدة وغير مسبوقة ولا تستهدف مصلحة المواطن بشيء؟! ألا يمكن لمنسوبي الوزارتين من تحصيل ذلك التأمين الصحي الاختياري مباشرة من شركات التأمين دون وساطة الوزارتين؟! ما هي الخدمة المجانية أو الإضافية التي قدمتها الوزارتان لمنسوبيهما؟!
وفي ظل ما تتطلع إليه قيادتنا الحكيمة من رعاية وتنمية للمواطنين في ضوء رؤية 2030، وإيماناً بأن المواطن السليم صحياً والمؤهل علمياً هو مفتاح التنمية وقائد مسيرتها، فإننا نأمل ونترقب تصحيح مسار التأمين الصحي الاختياري المحصور في شرائح معينة، إلى تأمين صحي شامل لجميع المواطنين وبآلية مدروسة نستفيد منها من تجارب الدول الناجحة لأنه مكسب وطني مضمون بنتائجه المثمرة.
عبلة مرشد- الوطن السعودية-