علي فضل الله- الاخبار اللبنانية-
بعد يوم واحد من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن «نسبة كبيرة من زعماء العالم فقدوا صوابهم»، قام النظام السعودي بإعدام الشيخ نمر باقر النمر في تصرف أجّج التوتر في المنطقة. صحيح أن أوباما افتخر، ذات تصريح حديث، بأن بلاده قوية إلى الحد الذي يمكّنها من المجازفة في السياسة، إلا أن استقرار العرش السعودي يبقى ذا أولوية كبرى لأمن الولايات المتحدة. وليس واضحاً، بما فيه الكفاية، اليوم، حقيقة الموقف الأميركي من الحالة العصابية التي يطغى فيها الجنون في المشرق العربي، حيث ستتغيّر، في المرحلة الانتقالية، الوجوه والخرائط. عند الشيعة، قد تبرز وجوه شابة أكثر «تطرّفاً»، وعند السنة، سيستمر الإنهاك والنزف بسبب التحريض المستمر؛ هذا إذا قبلنا بهذا التقسيم على أساس جمعي مذهبي.
كان إعدام 47 شخصاً، مع بداية العام الجديد، وبهذا الشكل، في السجون السعودية، بالسيف والرصاص وتقطيع الأطراف، مفاجئاً لكثيرين. لكن مع صعوبة الاستشراف السياسي الجدي، تصبح بعض التفاصيل مهمة. هنا مطالعة لتناقضات عدة وقع حكام المملكة ومرؤوسوهم فيها، الأمر الذي يشير إلى اضطراب وتوتر وسوء تقدير.
1. برغم الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية (م. 44 من نظام الحكم)، وتأكيد استقلالية القضاء (م. 46 منه)، وهو ما تم تأكيده في المؤتمر الصحافي لوزراء الداخلية السعودية عقب تنفيذ أحكام الإعدام، إلا أن هذا الفصل لم يظهر. فقد بدأ بيان الداخلية حول الإعدامات بمرافعة تبريرية شرعية تضمنت 4 آيات قرآنية و 7 أحاديث نبوية، وانتهى بآية قرآنية. وقد تركت الداخلية طريقة اختيار طريقة الإعدام (بالسيف أو الرصاص) لتقدير القائمين عليه، وليس للقضاة. وهناك مؤشرات عدة على تدخّل ضباط الداخلية في التقاضي، واستضافتها لمقر المحكمة الخاصة بالإرهاب.
2. نص بيان الداخلية على خمس جرائم أدين بها المحكومون بالإعدام، وهي اعتناق المنهج التكفيري والانتماء لتنظيمات إرهابية واستهداف المقار الأمنية والعسكرية وضرب الاقتصاد الوطني والعلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة. لم يتم اتهام الشيخ النمر بأي منها.
3. من الناحية الشرعية، فالأحكام تابعة لعناوينها. فقد نص بيان الداخلية على حديثين من صحيح مسلم حول الفرقة بين المسلمين، وقد تمّ توجيه هذه التهمة إلى النمر في سياق المحاكمة، من دون أن ينصّ بيان الداخلية عليها استقلالاً. فأين هاجم النمر المذاهب الأخرى؟ لم يحدث هذا الأمر، وإن كان قدح بالأسرة الحاكمة، وهو ما لا يُعَد تفريقاً بين المسلمين. لذلك، قُطع رأس الشيخ النمر من دون انطباق التهمة عليه، وهذا ما يخالف القواعد الشرعية والقانونية، حيب لا عقوبة إلا بنص (م. 38 من نظام الحكم). كما أن الحكم صدر بالتعزيز بالقتل، وهو ما يخالف آراء الكثير من العلماء، فالتعزيز عقوبة غير مقدّرة في كل معصية لا حد فيها ولا قصاص ولا كفارة، ولا تصل إلى القتل إلا بحدودٍ، على رأي.
4. من الناحية القانونية، ليس في السعودية قانون عقوبات مدوّن، بل تنظّم الشريعة والأنظمة الصادرة عن الملك مجاري الأمور. ترك هذا الواقع مساحة تقديرية واسعة للقضاء دفعت الملك السابق عبد الله إلى إصدار مرسوم لإصلاح القضاء في 2007، ومحاولة تدوين النصوص في 2010، من دون نجاح. أما الأنظمة (القوانين) الصادرة عن الملك، ولاسيما نظام الإجراءات الجزائية، فقلما يتم الالتزام بموادها. فبينما ينص نظام الحكم على حماية الدولة لحقوق الإنسان (م. 26)، مثلاً، فهي لم تلتزم بالمادة 19 من الإعلان العالمي حول حرية الرأي والتعبير، وهو ما مارسه الشيخ النمر سياسياً وبشكل سلمي. وقد اعتقل الشيخ من دون تهمة في مخالفة للمادة 9 من الإعلان، وأعدم دون مراعاة للمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تنص على أن لا يُحكم بالإعدام «إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة»، و «بالحد الأدنى من المعاناة» (قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي العام 1984).
5. لم تراعَ الضمانات القضائية في سير المحكمة، ولم يُسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه، أو محاميه بحرية الدفاع، ولم تسلّم الجثة لأهله. خلال التقاضي، أصرّ الإدعاء على تهمة الحرابة لإدانة النمر، لكنها لم تثبت، فانتقل سريعاً إلى المرافعة بتهم متعددة، وإصدار الحكم الأقسى. اتهم الشيخ بحمل السلاح ربطاً بحادثة اعتقاله، فطلب الدفاع استدعاء رجال الأمن الذي اعتقلوه للتحقيق، فرفض القضاة. لكن في المؤتمر الصحافي الذي تلا الإعدام، أصر المتحدث باسم وزارة العدل على دقة الأحكام وأهمية درجات التقاضي. تجدر الإشارة إلى أن المحكمة المعنية (الخاصة بالإرهاب)، والتي تأسست منذ حوالى 7 سنوات، نظرت في 2225 قضية، و 6122 متهماً، ما يعني أنه، في السنة الواحدة، تنظر في 318 قضية و 864 متهماً، وهو رقم كبير على محكمة تنتقل بين وسط وغرب السعودية.
6. وقع المتحدثان باسم الداخلية والعدل، في مؤتمرهما الصحافي، في تناقضات عدة، منها قول ممثل وزارة العدل أن بعض المتهمين أبدوا قناعتهم بالأحكام الصادرة بحقهم، وحين سأله أحد الصحافيين حول عدم تغيير البعض قناعاتهم، أجاب بأنه غير مطلع على سير المحاكمات. وفي مثال آخر، فقد تحدث ممثل الداخلية، بالنيابة عن القضاء، فعدّ الإرهاب «فساداً في الأرض»، ما يعني تطبيق حد الحرابة، وهو تنطّح منه حول موضوع فيه نقاش شرعي، وأساساً، فإن الحدّ طبّق في أربعة فقط.
7. في الوساطات، وقبل أيام من تنفيذ الأحكام، جرى حديث عن احتمال مبادلة الأمراء القطريين المختطَفين في العراق بالشيخ النمر، كما نقل مكتب الشيخ إبراهيم الصميدعي، مفتي السنة في العراق، أنّه تلقى اتصالاً من مكتب الملك السعودي بقبول «التشفّع» وتأجيل الحكم على النمر. لم يحدث ذلك، بل تمت تغطية إعدام النمر بالسيف، ومعه ثلاثة شيعة آخرون، بتنفيذ «القصاص» بـ 43 قاعدياً سنياً، والعكس صحيح. فمن اللافت المسارعة إلى التخلص من عدد غير قليل من قادة «القاعدة»، كفارس آل شويل الزهراني وعبد العزيز الطويلعي وآخرين، في هذا التوقيت.
8. في الإعلام، نُسب إلى «داعش» تأييدها الحكم على «الهالك الرافضي»، برغم تضمّن الإعدامات اسم حافظ متون الصحاح والمؤيد لـ «داعش» حمد الحميدي. أما بالنسبة لـ «القاعدة»، فقد تعرّضت لضربة عنيفة من قبل الوهابية الملكية لا يُفترض أن تمرّ من دون ردّ. لكن، اشتمال لائحة الإعدامات على الشيخ النمر، والتصعيد مع إيران، يُحرج مقاتلي «القاعدة» والبيئة الحاضنة في نجد، كما أنه يهدّئ من الاحتجاجات المتوقعة في الشارع السعودي بسبب فرض ضرائب على الاستهلاك. من هنا، فإن بعض ردود الفعل على إعدام النمر خدمت آل سعود بحيث نقلت الاهتمام الاعلامي والشعبي إلى حرق قنصلية أو إلى الجانب المذهبي أو ضاعفت إحراجات الوهابية «الجهادية».
هل ستسكت «القاعدة» و «داعش»؟ بحسب البيانات التي أطلقاها مؤخراً، هم حذروا آل سعود من مغبة المسّ بالمعتقلين «في سجون الطواغيت»، وأحدها بيان لافت لـ «القاعدة» قبل ساعات من تنفيذ الإعدامات. لا ينبغي إغفال هذه النقطة، فالتحريض الإعلامي الذي أطلقه النظام السعودي وحلفاؤه ضد إيران يخدم التطرف والتكفير في المنطقة. وبالتأكيد، فإن قادة الجماعات التكفيرية ليسوا منزعجين من ذلك، برغم صدورها عن «آل سلول»، بحسب أدبياتهم. فبعض البيئات الشعبية تترسخ فيها مفاهيم الإقصاء ورفض الآخر وإهدار دمه، وسيجد هؤلاء في شرائح الشباب الواسعة تربة أكثر خصوبة لتجنيد مقاتلين على حافة الجنون. ولن يكون مستبعَداً أن يتمكن التكفيريون من توسيع اختراقهم للمؤسسات الأمنية والعسكرية الخليجية، وفي ذلك مؤشرات عدة. هذا خطير على استقرار العروش، وكل ذلك يتم في زمن قياسي غريب.
في السياسة، ليست المملكة على ما يُرام، وهي على مفترق طرق، فبعد عام واحد من تولي سلمان الحكم، اندفع كثيراً إلى الأمام. وكما يقول بول كنيدي، فإن التوسع المفرط هو سبب انهيار الامبراطوريات.