الخليج أونلاين-
مدينة حيّرت من أراد استكشافها وسبر أغوارها، واستقبلت في مينائها الحضارات القديمة والشعوب المتعاقبة، فسمحت لهم على طول التاريخ بالمرور أو البقاء، وبترك بصماتهم التي ستشغل علماء الآثار بعد قرون. فمع تعاقب الفصول عليها والأزمنة، بقي في مدينة "قلهات" العُمانية ما نجح الزمن بالعض عليه بالنواجذ، ليتحول سحراً يعجز أمامه المستكشفون.
تعتبر قلهات الساحلية –بتقدير علماء الآثار- أقدم مدينة عُمانية على الإطلاق، وهي أول عاصمة لعُمان قبل دخول الإسلام إلى هناك. وبسبب موقعها الاستراتيجي المطل على البحر كان ميناؤها يستقطب السفن القادمة من شتى بقاع الأرض، فرست فيه سفت الهند واليمن، وكل من مرّت أساطيله من مضيق هرمز الحيوي.
وقد درس العلماء تاريخ قلهات الاقتصادي والثقافي والسياسي عن طريق التدوينات التي تركها الرحالة العرب والفرس الذين مروا من هناك، إلى جانب الشواهد التاريخية ودراسة النقوش والأحجار والمخلفات البشرية. فعلى سبيل المثال كتب الرحالة الأوروبي، ماركو بولو، عام 1292 للميلاد، عند مروره من قلهات ذاهباً إلى الصين، بأن لها موقعاً استثنائياً، وأن "ميناءها ضخم، وتقدم فيه خدمات بجودة عالية، وترسو فيه العديد من السفن المحملة بالبضائع، كما يستخدم لتصدير الخيول العربية إلى الهند".
وتخبّئ قلهات في بطن الأرض مدناً كاملة بعضها فوق بعض، وذلك بعد أن شهدت زلزالاً مدمراً قبل 300 عام، هدم الأغلبية الساحقة من شواهدها ومبانيها القديمة، ودفنها تحت الأرض. وما قد تجده هناك من شواهد باقية ما هو إلا جزء بسيط جداً مما ابتلعته الأرض، ويمكن للحفريات أن تعثر عليه وتدرسه وتوثقه.
ويعد ضريح "بيبي مريم" من أشهر المعالم الأثرية للمدينة، الذي نسجت الكثير من القصص حوله وحول تاريخه. فبحسب القصة التقليدية المتوارثة للمؤرخين، يرجع الضريح الغامض إلى حاكم قلهات الذي يقال إنه بناه لزوجته عام 1311 قبل الميلاد، ولم يوثق التاريخ هوية البنّائين، لكن تفرّده وطراز بنائه يجذب السياح بشكل كبير، ويدفعهم لقضاء وقت أكبر في استكشافه وتحسس أحجاره.
وبني الضريح من طينة تدمج بين الحجر والشعب المرجانية، الأمر الذي يجعله متفرداً ودالاً على الطبيعة الجغرافية المحيطة به. كما يحتوي الضريح على سرداب تحت الأرض كانت تعلوه قبة انهار جزء منها لأسباب متعلقة بالتغير المناخي والعوامل الطبيعية. كما يميز المكان طراز بناء يعتمد الشكل الأسطواني الذي يدل على طراز البناء الذي كان متّبعاً في ذلك العصر.
وتقف واجهات الضريح لتثبت مرور ومكوث وتأثر المنطقة هناك بالحضارة الهندية والإيرانية، فالواجهات بنيت على شكل أقواس على النمط المغولي الذي اعتاد الهنود والإيرانيون اتباعه في تلك الفترة. كما أن النقوش والزخارف أو ما تبقّى منها يزين جدران الضريح يدل على المهارات اليدوية التي تمتّع بها الحرفيون في تلك الفترة، واهتمام الحضارة القديمة بالتفاصيل الجمالية.
وقد وُجد أن الرحالة المعروف، ابن بطوطة، قد دوّن في مذكراته مشاهدات عن المدينة وعن الضريح، فقال: "يحتل ضريح بيبي مريم موقعاً متميزاً مطلاً على مرفأ المدينة، ومع تعاقب الأجيال يبقى ذلك المعلم واحداً من شواهد التاريخ لمدينة لم تكشف بعد عن أسرار ماضيها الكبير مثل ضريحها الذي يلفّ الغموض حول سره".
ونظراً لأهميتها التاريخية وثرائها التراثي العميق، يرى زوار المدينة العريقة أن هناك مساحة كبيرة لتطويرها لتكون مكان جذب سياحي تستفيد سلطنة عمان اليوم من وجوده بشكل أكبر. فيمكن على سبيل المثال التنقيب عن الآثار المدفونة تحت الأرض وإنشاء متحف يحكي قصتها وتعاقب الحضارات عليها، الأمر الذي يلبي احتياج توثيق تاريخ عُمان، ويذكّر العالم بأهمية مدنها ومكانتها الضاربة في عمق التاريخ البشري.