بعد فترة طويلة من الودّ، صار صعباً إخفاء الخلافات المصرية ــ السعودية المتصاعدة عن العلن. شهر العسل بين القاهرة والرياض يصل إلى أسوأ سيناريو: المساعدات التي تحمّل نظام عبد الفتاح السيسي من أجلها الكثير، داخلياً وخارجياً، صارت ورقة ضغط في يد الرياض لإجبار القاهرة على تغيير مواقفها، مع أن الطرفين يصرّان على أن الأمر لا يعدو كونه تقشفاً.
لا شيء يجمّل لمصر موقفها لدى السعودية وسط حملة التقشفات التي ضربت المملكة بسبب سياساتها وحروبها المشتعلة في المنطقة، أو يغري الرياض بإبعاد القاهرة عن دائرة التقليصات، ومنها قرار شركة «أرامكو» الحكومية السعودية تبليغ «الهيئة العامة للبترول» المصرية بالتوقف عن إمدادها بالمواد البترولية. وكانت السعودية قد وافقت، خلال زيارة الملك سلمان للقاهرة، على إمداد مصر بمنتجات بترولية مكررة بواقع سبعمئة ألف طن شهرياً لمدة خمس سنوات (تصل قيمتها إلى 23 مليار دولار).
الصدام بين القاهرة والرياض في ملفات عدة ظهر منذ نحو سنة ــ بعد عام ونصف من «تكامل المواقف» ــ وتحديداً حينما صار السعودي يقلّص «الكاش بالمليارات» عن نظام عبد الفتاح السيسي، تلاه الاختلاف في الملف السوري حول الحل وموقع الرئيس بشار الأسد من الخريطة السياسية...
إلى أن جاءت جلسة مجلس الأمن (يوم السبت)، عندما غيّرت القاهرة وجهة تصويتها من مساندة الموقف السعودي والفرنسي إلى دعم الموقف الروسي، فكانت الوحيدة التي صوتت لمصلحة المشروعين المتناقضين ضمناً في التعامل مع الأزمة السورية.
هذه ليست المرة الأولى التي تعارض فيها القاهرة موقف الرياض من سوريا، خاصة إصرارها على سير الحل مع بقاء الرئيس الأسد، أقله في المرحلة الانتقالية. لكن الأمر لم يصل إلى حد الافتراق، ولم يكن أي من مسؤولي الدولتين يوجه انتقادات إلى الآخر علناً. أما في مجلس الأمن قبل أيام قليلة، وبخلاف الانتقاد القطري المتوقع للموقف المصري، فإن الموقف السعودي بالانتقاد العلني أعلن بداية مرحلة جديدة من العلاقة، قد تعاقب فيها المملكة نظام السيسي على قضايا عدة.
من بين تلك الملفات المفتوحة الحرب في اليمن؛ فمع أن القاهرة فضلت التزام الصمت تجاه المجزرة الكبيرة في صنعاء، فإنها عبر الدوائر المغلقة عبّرت عن انزعاج كبير. وعملياً، خرجت مصر من التخطيط الاستراتيجي للمشروع السعودي بدعم الرئيس اليمني المستقيل، عبد ربه منصور هادي، وإعادته إلى السلطة، كما صارت خارج المعادلة العسكرية منذ عدة أشهر، وفق ما يؤكده مصدر عسكري رفيع، شدد في حديث إلى «الأخبار»، على أن القوات المسلحة المصرية اكتفت بتأمين الممرات الملاحية الدولية وتأمين السفن دون أي دور آخر.
من جهة أخرى، قد يكون التوافق المصري ــ السعودي تجاه انفتاح العلاقات مع إسرائيل حزام الشدّ الأخير سياسياً. رغم ذلك، وحتى لا يُحمّل الموقف السعودي الحالي أكثر مما يحتمل، فإنه لا يمكن فصل ما حدث عن رفض الخارجية السعودية طلباً مصرياً غير رسمي باستثناء العمالة المصرية من الرسوم الباهظة التي فرضت أخيراً، أو خفضها، خاصة في ظل وجود نحو مليون مصري في المملكة، يورّدون العملة الصعبة إلى البلاد. وتنقل مصادر دبلوماسية أن الخارجية السعودية أوضحت لنظيرتها أن استثناء الجالية المصرية «سيثير حالة غضب وسط الجاليات الأخرى... بالإضافة إلى أن زيادة الرسوم تخضع لاعتبارات داخلية لا يمكن التغاضي عنها مرتبطة بعجز الموازنة وتراجع أسعار النفط».
يضيف المصدر في الخارجية المصرية، في حديث إلى «الأخبار»، أن هذا القرار سيكون له تبعات عدة مرتبطة بعجز قطاع مصري عريض عن تسديد الرسوم الجديدة، خاصة أصحاب المهن الحرفية، مشيراً إلى أن القاهرة أبلغت الرياض أن الرسوم الجديدة قد تكون سبباً في ازدياد محاولات الوصول غير الشرعية إلى الأراضي السعودية أو تجاوز مدة الإقامة للمقيمين بالفعل.
أما عن قرار «أرامكو»، الذي يشمل الشهر الجاري على الأقل (كما أعلنت القاهرة أمس)، فقد عزته الشركة إلى عمليات إصلاح واسعة في مصافي النفط التابعة، لكنها عملياً ألغت ما يعادل ثمنه نحو نصف مليار دولار كان من المفترض أن تحصل عليه مصر خلال هذا الشهر، وهو ما دفع الحكومة إلى «إجراءات عاجلة لإنقاذ الموقف» تجنباً لأزمة مرتقبة في الأسواق.
أيضاً، يربك اعتذار الشركة السعودية الحكومة المصرية بسبب التوقيت، في ظل أنّ الأخيرة تعيش تقشفاً داخلياً بدأ منذ شهور. كذلك إن ما تحصل عليه القاهرة من مواد بترولية هو أصلاً ضمن حزمة المساعدات التي تحصل عليها لدعم الاقتصاد المحلي، وهي الآن ستكون مضطرة إلى دفع 500 مليون دولار عبر البنك المركزي، هي ثمن الشحنات إلى الجهات التي سترسو عليها المناقصة، خاصة أن الرياض لم تبلغ إمكانية تسديدها المبالغ نقداً بدلاً من مصر التي تحصل على 700 ألف طن وتسدد مبالغها على مدار 15 عاماً بفائدة 2% فقط.
لكن دبلوماسياً مصرياً رفيعاً، كان يحضر اجتماعات التنسيق بين القاهرة والرياض، شرح أن «موقف أرامكو ليس مستغرباً، لكنه جاء متأخراً كثيراً»، مستبعداً أن يكون عقاباً مرتبطاً بالمواقف السياسية المصرية التي لم تتطابق مع الرياض في الشهور الأخيرة. وأشار إلى أن الرياض ستوفر نحو ملياري دولار كمساعدات لدعم الاحتياطي النقدي المصري، ما «سيكون له دور كبير في حصول مصر على الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي».
وأضاف المصدر نفسه أن الاجتماعات بين مصر والسعودية متوقفة حالياً، لأنه «لا حاجة إليها بما أننا ننفذ ما سبق الاتفاق عليه»، لكنه لم ينكر أن بعض الاستثمارات الحكومية السعودية ألغيت ضمن خطة ترشيد النفقات المالية التي وضعتها المملكة أخيراً لتقليص عجز الموازنة لديها. وتابع: «أُبلِغَت القاهرة بالمشاريع المُلغاة، كذلك أُجِّل تنفيذ مشاريع أخرى، منها مشروعات استثمارية عملاقة على سواحل البحر الأحمر».
وعن إمكانية حدوث عمليات ترحيل للعمالة المصرية، نفى المصدر وجود أي توجه سعودي مقصود لذلك... «ما يحدث داخلياً في الوظائف مرتبط بالإجراءات الاقتصادية لتقليص العمالة الأجنبية، وقد يكون على المصريين ضرر أكبر من غيرهم لأنهم الأكثر، لكن ما ينطبق عليهم سيشمل الجنسيات الأخرى».
وبمراجعة الواقع السعودي الاقتصادي، فإن المملكة تواجه أزمة اقتصادية هي «الأخطر» بالنسبة إليها نتيجة تراجع عائدات النفط على مدى العامين الماضيين، ما دفع العائلة الحاكمة إلى اعتماد «سياسة التقشف» في محاولة للحد من العجز الذي ناهز 98 مليار دولار في 2014. وفي إطار إجراءات التقشف، أصدر الملك سلمان الشهر الماضي، أمراً بخفض رواتب الوزراء بنسبة 20 في المئة، وخفض المكافآت السنوية لأعضاء مجلس الشورى الـ 160 بنسبة 15 في المئة، وخفض الإعانة السنوية لأغراض السكن والتأثيث بنسبة 15 في المئة أيضاً.
وشملت القرارات الملكية وقف العلاوة السنوية لكل العاملين في القطاع الحكومي من السعوديين وغير السعوديين، وعلى العاملين في القطاع العسكري، باستثناء الجنود المشاركين في العمليات قرب الحدود الجنوبية وخارج البلاد. كذلك تأثر قطاع البناء بالأزمة الاقتصادية، خاصة أنه يعتمد على مشاريع البنية التحتية التي تمولها الدولة، ما أدى إلى تدهور أوضاع العمال الأجانب. ووفق مراقبين، ألقت سياسات التقشف بظلالها على المواطن السعودي، بعدما أدت إلى تراجع ثقة المستهلك، وهو ما ينعكس سلباً على الإنفاق.
جلال خيرت- الاخبار اللبنانية-