تعد إحدى السمات المشتركة اليوم بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي هي افتقار كل منهما إلى القدرة على تنسيق سياساتهم الخارجية، مما يجبرهما على العمل في وحدات أصغر تتكون من عدة أعضاء من دولهم، حيث تدفع الأهداف المتنافسة بين الدول إلى تفضيل الارتباطات الثنائية على الارتباطات متعددة الأطراف.
ومن هذا المنطلق، تقوم العديد من دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بتعميق علاقاتها خارج إطار المؤسسة الأكبر وتعمل من خلال تحالفات تقوم على أساس تقارب المصالح على المدى القصير. ومن السمات الشائعة الأخرى أيضا الاعتراف بانفصال الولايات المتحدة عن منطقة الخليج والإشارات القوية على استعداد الولايات المتحدة لتقليل وجودها ودعمها لشركائها في الاتحاد الأوروبي.
العمل على صفقة أمنية جديدة
خلقت إدارة "ترامب" مع تاريخ من الرسائل المختلطة، واقعًا أمنيًا جديدًا أجبر شركاءها على التكيف، والاتجاه نحو بناء تعاونات جديدة أو تعزيز التعاونات القائمة. إن مسألة ما إذا كان الانسحاب الأمريكي من منطقة الخليج سيتشكل بالفعل على الأرض أم لا هي قضية ثانوية لفهم كيف يجب أن تتصرف دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي كما لو أن الولايات المتحدة لم تعد جزءًا من الحفاظ على أمنها بعد الآن.
والحقيقة هي أنه لن يكون بمقدور دول مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد الأوروبي سد الفجوة في الوقت الحاضر أو في المستقبل القريب.
بالرغم من المساهمة البحرية الأمنية في عام 2019 بقيادة أوروبا في مضيق هرمز، عبر بعثة مراقبة عسكرية مدعومة سياسياً من ألمانيا وبلجيكا والدنمارك واليونان وإيطاليا وهولندا والبرتغال وفرنسا، إلا أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال ترى الاتحاد الأوروبي شريكا استراتيجيا ضعيفا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ووفقاً لتقرير صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن المملكة المتحدة، وهي إحدى القوى العسكرية الأوروبية الرئيسية، أطلقت مهمتها المنفصلة الخاصة بها في المضيق بعد بضعة أشهر فقط من قيام الاتحاد الأوروبي بإنشاء البعثة.
كانت القوى الرئيسية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في عهد الرئيس "أوباما"، متفقة بطريقة ما حول كيفية التعامل مع إيران وحول إنشاء الإطار المناسب لإنهاء العقوبات، مما أدى إلى استياء كبير من الشركاء العرب.
ومع إدارة "ترامب" بدأت سياسات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الاختلاف بشكل كبير. في حين يبدو أن تصرفات إدارة "ترامب" تؤكد فك الارتباط الأمريكي مع الخليج، إلا أنها دمرت الوضع السياسي الإقليمي القائم بين إيران من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى، لدرجة أن طهران اتخذت إجراءات عسكرية خطيرة لتذكير جميع أصحاب المصلحة أن أي استفزازات أخرى ستكون مكلفة للغاية (هجوم أبقيق مثالا). لذلك، فإن الرواية المثيرة للحرب التي انبثقت من دول مجلس التعاون الخليجي، والمباركة من قبل واشنطن، إلى جانب التدخلات الإقليمية الإيرانية المستمرة، قد زادت الوضع هشاشة.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، يدور الاختلاف مع الولايات المتحدة بشكل أساسي حول إيران، التي ترغب العديد من القوى الأوروبية الرائدة في التعامل معها، ويمكن القول أن لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أولويات مختلفة في المنطقة.
ومن ناحية أخرى، ففي عهد "ترامب"، فإن النظرة الأمريكية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي محكومة بالعلاقات الشخصية لصهر "ترامب"، "جاريد كوشنر"، مع "محمد بن زايد" و"محمد بن سلمان".
كان الاتحاد الأوروبي نفسه أكثر صراحة في القضايا الإنسانية داخل دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة الحرب في اليمن. وقد اختلفت دول الاتحاد الأوروبي فيما بينها في هذا الصدد. دعت المملكة المتحدة وفرنسا إلى المزيد من المشاركة مع دول مجلس التعاون الخليجي وعدم اشتراط ارتباطها بسجلات حقوق الإنسان، والانخراط السياسي في الوقت نفسه لإنهاء الصراع في اليمن. من ناحية أخرى، اتخذت ألمانيا موقفاً أكثر صرامة حيث أوقفت صادرات الأسلحة إلى السعودية.
السياسات القديمة والتحالفات الجديدة
ينشأ التوتر بين دول الاتحاد الأوروبي، عندما يتعلق الأمر بمبيعات الأسلحة، مما يوضح كيف يمكن للتنافسية الاقتصادية بين الأعضاء أن تعطل أي سياسة خارجية مشتركة، وكيف أن دول الاتحاد الأوروبي غير قادرة على تشكيل سياسات جديدة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي.
في الواقع، تنظر العواصم الأوروبية إلى دول مجلس التعاون الخليجي كمستهلكين لمنتجات الاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص، الأسلحة. ويبدو أن هذه السياسة لم تتغير حتى اليوم، بالرغم من النتائج السلبية للغاية وقد ظهر ذلك في حقيقة أن الدول الأوروبية تدعم الأعداء في دول مجلس التعاون الخليجي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يبدو أن عقود الأعمال هي من بين الدوافع الرئيسية.
على سبيل المثال، كانت فرنسا غير قادرة على تسليم الأسلحة إلى السعودية لشهور بسبب حظر ألمانيا لتصدير الأسلحة بعد مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" في إسطنبول والحرب التي قادتها السعودية في اليمن. وبالمثل، تجد فرنسا وإيطاليا نفسيهما في علاقة متوترة على الجبهة الليبية بسبب علاقة إيطاليا التاريخية بالبلاد وبسبب صفقات الأسلحة مع قطر.
على هذا المنوال، تجد العديد من دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي نفسها الآن في تقارب مصالح على المدى القصير وقد كشف الوضع الحالي في ليبيا إلى جانب التطورات في منطقة البحر المتوسط عن هذه الشراكات المصلحية. تقاتل الإمارات وفرنسا واليونان ضد تركيا، وقد أدان وزراء هذه الدول ومصر ما وصفوه بـ"التحركات التركية غير القانونية التي تحدث في المنطقة الاقتصادية الخالصة في قبرص ومياهها الإقليمية" في بيان مشترك في مايو/أيار 2020. ويدعم هؤلاء قوات الجنرال الليبي "خليفة حفتر"، بينما تدعم إيطاليا حكومة الوفاق الوطني في طرابلس إلى جانب تركيا وقطر.
ومع ذلك، في يونيو/حزيران 2020، أعلنت إيطاليا واليونان أنهما توصلتا إلى اتفاقية المناطق الاقتصادية، التي تتعارض مه اتفاقية تركيا وحكومة الوفاق الموقعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. وانطلاقا من انخراط السعودية في معركة نفوذ شديدة مع تركيا، بعد دعم أنقرة للدوحة في الأزمة الخليجية، عززت المملكة بشكل كبير علاقاتها مع قبرص واليونان على مدى السنوات الماضية. وبالمثل، حتى لو قيل أن العلاقات الشخصية بين الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" وولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" متوترة، فإن البلدين يحافظان على قناة مفتوحة.
أظهر محور الإمارات والسعودية تماسكًا دائمًا على مدار السنوات الماضية، بالرغم من التوترات بشأن حرب اليمن بين حكومة "هادي" المدعومة من السعودية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات في عدن. ومع ذلك، فإن رهانهم على إدارة "ترامب" ودعوتهم المستمرة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد إيران، أدى إلى تنفير الديمقراطيين مما أفقد أبوظبي والرياض النفوذ في هياكل السلطة الأمريكية. ويهدد هذا الموقف قدرات هذه الدول على التأثير خاصة في حالة فشل "ترامب" في إعادة انتخابه.
إن الانسحاب الأمريكي من المنطقة أو على الأقل تخفيض واشنطن لتواجدها، كما يتضح من عدم رد الولايات المتحدة على هجوم الطائرات بدون طيار على منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019، دفع الإمارات والسعودية للنظر نحو الشرق. ففي الوقت الذي خفضت فيه الإمارات من معارضتها العامة لإيران، بل حتى قامت بتوصيل الإمدادات الطبية لإيران وسط جائحة فيروس "كورونا"، عززت السعودية علاقاتها مع القوى الشرقية الرئيسية مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان.
مسألة إيران في زمن التراجع الأمريكي
من منظور دول مجلس التعاون الخليجي، أثبت الاتحاد الأوروبي أنه غير قادر على احتواء سياسات إيران الإقليمية المزعزعة للاستقرار بل تم تقييم استعداده لإنقاذ الاتفاق النووي وتنفيذ نظام "انستكس" على أنه عمل عدواني. وبالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، فإن احترام توقيع الاتفاق من قبل أعضائه يمثل أولوية بالنسبة لدوله في الحفاظ على صلاحيتها على الساحة العالمية.
يكمن الأمل في أن يرسم الرئيس "ترامب" صفقة مماثلة من صنعه تسمح له بتحقيق طموحه الشخصي في الاعتراف بأنه "صانع صفقة" لا غنى عنه. وكان "ترامب" قد أدلى بتعليقات مؤخرا داعيا إيران للتفاوض على صفقة الآن، بدلا من الانتظار حتى بعد الانتخابات.
جاءت إحدى المؤشرات في تغريدة عن إطلاق سراح الجندي السابق في البحرية الأمريكية "مايكل وايت" من قبل إيران في أوائل يونيو/حزيران، حيث قال الرئيس: "شكرًا لإيران. لا تنتظروا حتى بعد الانتخابات الأمريكية لإبرام الصفقة الكبرى. سأفوز. ستعقد صفقة أفضل الآن!".
وكانت الإشارة الأخرى في فعالية في مدينة تولسا في 20 يونيو/حزيران، حيث قال إن إيران يجب أن تتفاوض الآن وإلا فإنها "ستدفع ثمناً أعلى بكثير". تُظهر هذه الدعوات انفتاح "ترامب" على إحياء المفاوضات مع إيران مع إحجامه عن التدخل عسكريًا في المنطقة ورغبته في الانفصال عنها.
سياسات أقل طموحًا
لقد فهمت دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي ذلك، ولكن لا تزال بعض القضايا الإقليمية غير قابلة للتفاوض للعديد من أصحاب المصلحة. بالنسبة للسعودية، فإن احتمال التراجع عن اليمن غير متوقع حيث تعتبر المملكة أن أمنها القومي على المحك. بالنسبة إلى الإمارات، فإن الخلاف مع قطر عميق ولن توافق السلطات على رفع الضغط على الدولة المجاورة. بالنسبة لقطر، يبدو أن الخضوع للضغوط والتخلي عن سياستها الخارجية المستقلة، إلى جانب نفوذها الذي توفره الجزيرة، يهدد سيادتها. حتى لو كانت هذه الدول قد تضررت بشدة من الآثار الاقتصادية للوباء وانخفاض أسعار النفط، فإن هذه القضايا تظل ذات أولوية وستستمر الدول في تخصيص تمويل كبير لها.
ومع ذلك، يُعتقد أن المزيد من التدخلات العالمية سيتم إلغاؤها أو تخفيضها بسبب تراجع الموارد المالية. ونتيجة لذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تركز بشكل كبير على تقليل اعتمادها على المنتجات الأجنبية، وتطوير اقتصاداتها من خلال التنويع، وخفض حاجتها إلى العمال الأجانب، ومحاولة تعزيز استقرار اقتصادها لجذب الاستثمارات الأجنبية.
كما أن توجه دول مجلس التعاون الخليجي نحو الشرق سيجبرها على الموافقة على نهج أقل عدوانية تجاه طهران، التي تحتفظ بعلاقات قوية مع الصين والهند.
يمكن أن يصبح الاتحاد الأوروبي حليفًا ثمينًا لدول مجلس التعاون الخليجي حيث لا يزال بإمكانه عرقلة طموحات إيران النووية نظرا لعدم انسحاب الاتحاد الأوروبي من الاتقاق النووي، في حين أن القوى الآسيوية لن توفر لدول مجلس التعاون الخليجي أي فرصة فيما يخص الضغوط على إيران حيال هذه القضية.
بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي المتوسطية بشكل خاص، يمكن أن تكون بعض دول مجلس التعاون الخليجي شركاء رئيسيين في تأمين وتعزيز مصالحها. ومع ذلك، على المدى الطويل، لا يعد الفضاء المتوسطي أولوية مباشرة للسعودية أو الإمارات، ولكنه مجرد قضية مؤقتة يمكنهم من خلالها ممارسة الضغط على تركيا وبالتالي على قطر.
وإذا لم تكن دول الاتحاد الأوروبي قادرة على القيام بدور الولايات المتحدة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها ستتمكن على الأقل من تعزيز مكانتها كشريك اقتصادي قوي يمكنه توفير الاستثمارات والأدوات والخبرة الفنية للتنويع الاقتصادي.
كوينتين دي بيمودان - منتدى الخليج الدولي-