(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
لعلّ أخطر ما تواجهه أمّة، في لحظة خطر، هو غيابَها الكامل عن الوَعي بقضيّتها وإهمالها المُجرم في حقّ تاريخها، وتركها كلّ أوراق قوّتها ومصادر منعتها وصلابتها في أيدي مراهقين، هبطوا على كراسي السّلطة في غفلة من الزّمن، فإذا الغفلة تطول إلى غفوة، وربّما احتضار.
والأكثر ألمًا على النّفس وضغطًا على العقل هو أنّ دولاً عديدة اختارت في لحظة الأزمة أن تفتح دفاترنا وأن تدرس وتحلّل مشاريعنا نحن، حتّى النّاقص منها، وأن تبدأ من حيث انتهينا، لكنّا هاهنا قاعدون، ولا نزال، ننتظر ما لا يجيء ونتوقّع ما لا يحدث، ونضع كلّ رهاننا على الجانب الخطأ، في عالم يعتبر –ومعه كلّ الحقّ- الرّهان خيارًا أخرق.
في أسبوع واحد سقطت ثاني حكومة أوروبية تابعة لواشنطن، إنجلترا ثمّ إيطاليا، والقوس مفتوح بلا ثمّة فرص، مع تعثّر جهود تأمين إمدادات الطّاقة، وارتفاع الأسعار الجنوني والتّهديدات الروسية التي تحوّلت فجأة إلى فعل قطع خط غاز "نورد ستريم" المغذّي لأوروبا، وتزامن القطع بحجّة الصيانة في خضم أزمة تضخّم منفلت تضرب أسواق القارّة العجوز، وقبل أي شيء بالقرب من فصل الخريف الذي تحوّل إلى خريف رعب للغرب كلّه.
نجح القيصر الروسي بوتين في مواجهة ما كان ينتظر أن يكون حصارًا أوروبيًا لروسيا إلى ضربات موج كالجّبال يهزّ الاقتصاديّات الأوروبية، ويزلزل قوائم كراسي الحكم والسّلطة، يفزع الشّارع بالقدر ذاته الذي يضرب فيه أباطرة أسواق المال، ويهدّد أكبر الدول الأوروبية وأصغرها، ويترك الجميع بلا وقود عقب سنوات الكساد الكبير إبّان أزمة كورونا.
الضّربة الروسية للمفارقة استكملت خطوة عربية ناقصة، عشية اندلاع حرب تشرين الأوّل/ أكتوبر التحريريّة في العام 1973، حيث تحوّل القرار العربي في منظّمة "أوبك" فجأة وبغير سوابق إلى الإجماع، وخطفت الدّول المصدّرة للبترول المرّة الأولى القرار في سوق النّفط، عوضًا عن الزّمن الذي كان يسيطر فيه المشترون على الأسواق وتحدّد بورصات عواصمهم الأسعار وتفرضها قسرًا.
تعلّم الروس الدّرس، وتمكّنوا بمزيج من الدّهاء والحسم في فرض إرادتهم على كلّ أوروبا، وتدمير الخطّة الأميركيّة للحصار الاقتصادي الخانق، بل وباستغلال بعض الحقائق وأوضاع الأسواق العالمية، بعد أزمة ضخمة مثل كورونا، استطاعوا نقل اللّعبة إلى الشّارع الأوروبي والأميركي، وظهر بجلاء أنّ روسيا دخلت الحرب المفروضة عليها أمّة موحّدة، وخرجت منها أمٍة منتصرة.
الكلمة الفيصل في الأزمة الروسية كانت للإرادة، وهي الكلمة الأولى والأهم في أحداث التاريخ الكبرى، فكلّ طرف على امتداد وتنوّع صراعات التاريخ الإنساني المعروف يسعى بالنهاية إلى فرض إرادته على طرف آخر، وبقدر نجاحه يرتسم عمق انتصاره وقوّته، بل وقدرته على تغيير المستقبل.
وفي ظلال الأزمة الروسية، تأتي زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، الولايات المتّحدة لا تدخل هذه المرّة بوصفها القوّة العظمى الوحيدة، بل بوصفها قوّة عالمية ضمن كوكب متعدّد القوى والأطراف، بل إنّها قوّة في أزمة، وتبحث عن طوق النّجاة له ولحلفائه، والخليج في مثل هذا التّحليل يمثّل الحلّ والفرصة والمستقبل، فبترول الخليج هو الحلّ النّاجح لأزمة الطّاقة، والفرصة الوحيدة التي يستطيع من خلالها بايدن أن يسجّل نقاطًا لصالح فكرة إعادة انتخابه، وسيكون بالتأكيد مجال الصّراع المستقبلي القادم –والأخطر- مع القوّة الصينية الهائلة.
وما يعزّز هذه القراءة للأحداث، هي التّفاعلات الاقتصادية الحادّة التي يمرّ بها العالم، خلال أسبوع واحد فقط، سقطت حكومتين في أوروبا جرّاء الأزمة القائمة والعجز عن إيجاد أيّة حلول لها، في بريطانيا وإيطاليا، ثمّ انهيار العملة الأوروبية "اليورو" لتصل إلى مستويات تاريخيّة أقلّ من دولار واحد، وفي الولايات المتّحدة ذاتها، فإنّ نسب التضخّم المُعلنة من جانب الاحتياطي الفيدرالي سجّلت سابقة عند 9.1%، بشكلٍ لم يتكرّر منذ أكثر من 4 عقود.
وبشأن مستقبل أسعار النّفط، التي تراجعت بفعل مخاوف الكساد من 120 دولار قبل شهرين إلى 93 دولار حاليًا، فإنّ التّوقعات المتشائمة لأغلب مؤسّسات المال والأعمال العالمية تدفع إلى اليقين بارتفاع قياسي في أسعار النّفط مع اقتراب فصل الشتاء، ونسب التضخّم المنفلتة التي تغلّف أغلب الأسواق العالمية.
كلّ الأرقام والحقائق تمنح أنظمة الخليج، مهما بدا من ضعفها أو عجزها، القدرة على التّعامل بنديّة مع الأميركي، ووضع قائمة شروط وخطوط حمراء أمامه وعلى السياسة الأميركية في المنطقة، وفرض إرادة أصحاب السمو والمعالي على ساكن البيت الأبيض، الذي أتاهم سعيًا لإنقاذ نفسه وحلفائه.
فهل هذا التصرّف البراغماتي البسيط، والذي للمفارقة لا ينطوي على أقلّ مخاطرة، أصعب وأضخم من أن تتخيّله عقول أسياد القصور، أم أنّ النفوس التي تربّت على التبعيّة أعجز من أن تتّخذ موقفًا، هو بالأساس يصبّ في مصلحتها مباشرة، ويمنحها القدرة على البقاء والاستمرار، سواء أراد الأميركي أم رفض، ويحوّلها من عرائس راقصة باليد الأميركية والصهيونية إلى طرف قادر فاعل.
لكن، يبقى الأمل الوحيد الذي يدفع للكتابة والتّحليل، ومحاولة البحث الدّؤوب عن طريق مختلف للشعوب العربية، هو الشعب العربي ذاته، يتعيّن على كلّ شخص مهما كان موقعه، ومهما كانت رؤيته للوضع الحالي، أن ينطلق للبحث عن مشروع وطني مواز، في ظلّ التّباين والتّغير الشديد الطارئ على موازين القوى بالمجتمع السعودي خصوصًا.
فالشّعب الذي كان يعد حتى وقت قريب جدًا، أو ما يزال كذلك، رقمًا ثابتًا في معادلات التأثير والحركة، يمور بتفاعلات حادّة، زادتها انفتاح مواقع التّواصل الاجتماعي وإمكانات التواصل الحرّ عبرها فرصًا، ويرفع من احتمالات الرّجاء بالغد الأفضل والمطلوب، مع ضرورة الإلتزام القاطع بموازين مضبوطة فيما يتعلّق بمشروع وطني ذي جاذبية، وبالتّالي قدرة على تجميع أصحاب هذا الهدف.