DW- عربية-
تضخ السعودية استثمارات بالمليارات في العديد من دول العالم، سيما بعد تحقيق مكاسب كبيرة جراء زيادة أسعار النفط. وقد أثار ذلك تساؤلات ومخاوف من أن هذه الأموال الطائلة ترمي لتحقيق أهداف سياسية. فما الحقيقة؟
تظهر بين الحين والآخر دعوات لمقاطعة السعودية بسبب سجلها الحقوقي في انتهاكات حقوق الإنسان، بيد أن أي دولة تحاول مقاطعة ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، ستواجه تداعيات اقتصادية صعبة خاصة إذ تطلب الأمر الاستغناء عن الاستثمارات السعودية السخية.
وقد تزايدت في السنوات الست الماضية الاستثمارات السعودية الخارجية، إذ بات صندوق الاستثمارات العامة السعودي – صندوق سيادي مملوك للدولة - يمتلك أسهم في شركات عالمية أبرزها أمازون و غوغل وفيزا ومايكروسوفت وديزني ونينتندو وأوبر وباي بال وزوم.
ولا يتوقف الأمر على هذه الشركات، بل تشمل الاستمارات السعودية مجال الرياضة العالمية إذ أعلن صندوق الاستثمارات العامة العام الماضي عن استكمال الاستحواذ على نادي نيوكاسل الإنجليزي ، فضلا عن دعم الصندوق لبطولة "لايف غولف".
كذلك ضخ الصندوق السيادي السعودي مليارات الدولارات في أسهم شركات أمريكية أخرى مثل "بلاك روك" الذي تعد
أكبر شركة في العالم لإدارة الأصول.
وبرز اسم الصندوق السيادي كمرشح أول لشراء حصة أقلية في امتياز "ستاربكس" بالشرق الأوسط التابع لمجموعة "الشايع" الكويتية، وفقا لما ذكرته وكالة بلومبرغ.
ويعني هذا أن الأموال التي تنفق على كل هذه السلع سوف تصب في صالح تعزيز الاستثمارات السعودية.
تغييرات جذرية
ويعد وجه التشابه بين هذه الصفقات أن من يقف وراءها صندوق الاستثمارات العامة السعودي الذي تأسس عام 1971 كصندوق سيادي سعودي مملوك للدولة.
يشار إلى أن العديد من دول العالم تمتلك صناديق ثروة سيادية ما يعني أن السعودية ليست استثناء.
وكان الصندوق حتى وقت قصير نسبيا يضخ استثمارات محلية منخفضة المستوى في الغالب إذ لم يكن لاعبا دوليا كبيرا، بيد أن هذا الأمر طرأ عليه التغيير بداية من 2015 وهو العام الذي تزامن مع تعيين الأمير محمد بن سلمان وليا لولي العهد والذي أصبح بعد ذلك بعامين وليا للعهد، ومؤخرا رئيسا للوزراء ، ويعد حاليا بمثابة الحاكم الفعلي للسعودية.
وعمد بن سلمان إلى ترسيخ ثروة المملكة تحت أوامره بما يشمل جعل صندوق الاستثمارات العامة مركزا لتنفيذ خططه لتحديث البلاد وتنويع اقتصادها بعيدا عن النفط.
وكانت البداية عام 2016، عندما تصدر الصندوق عناوين الصحف حول العالم للمرة الأولى بضخه استثمارات بقيمة 3.5 مليار دولار في شركة أوبر .
وقد وصفت كارين يونغ، الباحثة البارزة في مركز كولومبيا لسياسة الطاقة العالمية، عام 2019 الدور الجديد لصندوق الاستثمارات العامة في الاقتصاد السعودي باعتباره "غير مسبوق". وأضافت "أصبح الصندوق المحرك المركزي للنمو في السعودية في شكلها الجديد وفق لرؤية محمد بن سلمان، إذ يُجرى توجيه موارد الدولة لتعزيز قوة الصندوق بما في ذلك بيع أصول الدولة."
وقالت يونغ إن الصندوق إلى جانب أنه يمنح بن سلمان "وسيلة لتغيير الأمور بسرعة وجنى الأموال بوتيرة سريعةـ فإنه يقوي موقفه ضد المعارضة الداخلية أو حتى ضد الأفكار البديلة حيال الدور المناسب الذي يجب أن يكون منوطا بالمؤسسات الخاصة".
طموحات كبيرة
وفقا لما هو منشور، فإن الهدف من وراء الصندوق في نهاية المطاف أن يصبح صندوق الثروة السيادي "الأكبر والأكثر تأثيرا" في العالم بحلول عام 2030 بأصول تبلغ قيمتها تريليوني دولار.
يشار إلى أن الصندوق يمتلك حاليا أصولا بقيمة 620 مليار دولار، ما يعد أربعة أضعاف قيمة الأصول عام 2015.
الجدير بالذكر أن صندوق السيادي النرويجي يعد حاليا الأكبر في العالم بأصول تبلغ 1.4 تريليون دولار فيما يحتل صندوق الاستثمارات العامة السعودي المرتبة السادسة.
بيد أن هناك توقعات بتحسن تصنيف الصندوق في المستقبل بفضل أزمة الطاقة العالمية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا وما تلى ذلك من ارتفاع لأسعار النفط بشكل كبير. وعلى وقع ذلك، توقعت السعودية أن تحقق فائضا في الميزانية لأول مرة منذ 10 سنوات، ما يعني ضخ المزيد من الأموال في صندوق الاستثمارات العامة.
لكن ازدياد قوة صندوق الاستثمارات العامة وباالتالي نفوذ محمد بن سلمان الذي يقف وراء الصندق، قد أثار مخاوف بعض المراقبين من أن السعودية ربما قد تستخدم الصندوق لكسب دعم دولي لأهدافها وأجندتها السياسية.
"تلميع صورة السعودية"
في هذا السياق، أعربت العفو الدولية أواخر العام الماضي عن قلقها إزاء استحواذ الصندوق السيادي السعودي على نيوكاسل يونايتد باعتباره "غسل انتهاكات حقوق الإنسان بالرياضة".
ووصفت منظمات حقوقية استضافة السعودية لسباق الجائزة الكبرى للفورمولا 1 محاولة لاستغلال الرياضة في تلميع صورة المملكة.
وطُرحت تساؤلات مماثلة حيال وجود الصندوق كمستثمر غير مباشر في شركة تويتر وهل كان للأمر تأثيرا على الطريقة التي تعاملت بها الشركة مع فضيحة تجسس سعودية عام 2015. يشار إلى أن محكمة أمريكية قد أدانت مديرا سابقا بشركة تويتر متهما بالتجسس لصالح السعودية، بست تهم جنائية، من بينها التصرف كعميل للمملكة ومحاولة إخفاء مدفوعات حصل عليها من مسؤول مرتبط بالعائلة المالكة.
من جانبها، نفت شركة تويتر أي تأثير للمستثمرين على نشاطها.
ولم تتوقف طموحات الصندوق السيادي السعودي عند هذا المستوى، إذ ضخت السعودية استثمارات من خلال الصندوق وغيره مثل الصندوق الاستثماري السعودي-الياباني الذي تديره شركة تابعة لمجموعة "سوفت بنك" اليابانية. وقد مهد هذا الطريق أمام السعودية لدخول سوق التكنولوجيا في الولايات المتحدة.
وعلى وقع ذلك، ذهبت الصحافية الأمريكية والمتخصص في مجال التكنولوجيا، كارا سويشر، إلى القول بأنه "إنه جرى أزالت السعودية من الشبكة العالمية، فإن كل شيء سوف ينهار".
ويقول الباحثون إنه من الصعب تحديد القطاعات التي يضخ فيها الصندوق الأموال نظرا لأن نشاطه التجاري لا يحظى بقدر كبير من الشفافية.
الجدير بالذكر أن "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية" قد ذكر في ورقة بحثية قبل عامين أنه لم تظهر أي مؤشرات على أن الصندوق السيادي السعودي ضخ استثمارات مباشرة كبيرة في أوروبا وألمانيا على وجه التحديد.
بيد أن هذا النهج قد يتغير، وفقا لما ذكرته يونغ، التي تقوم حاليا بتأليف كتاب عن الصناديق السيادية الخليجية.
وفي مقابلة مع DW، أضافت أن هذه الصناديق تتطلع في الوقت الحالي إلى ضخ استثمارات في اليونان "من منطلق الدفاعوفي ألمانيا من أجل صفقات الطاقة."
وقالت الورقة البحثية إنه في حالة توسع نشاط الصندوق في أوروبا "يتعين في هذه الحالة تقييم التأثير السياسي نظرا للصلة الوثيقة بين الصندوق والحكومة السعودية. يجب إجراء تقييم حول ما إذا كان الصندوق يعمل فقط في شكل مستثمر يجنى أرباحا أم أنه يتبع أجندة سياسة خارجية؟."
لتحقيق الربح
وقالت يونغ إن الصندوق السيادي السعودي مازال حتى الآن يضخ استثمارات لجني الأرباح، مضيفة "ما زال الصندوق أداة محلية لتعزيز الاستثمار المحلي بهدف إحداث نقلة للاقتصاد السعودي. وقد يكون ذلك ممكنا".
لكنها أضافت أنه من الممكن أن يصبح الصندوق في نهاية المطاف كيان سياسي، إذ أن "الأولوية في الوقت الحالي تتمثل في تعزيز النمو المحلي والاستقرار وخلق فرص عمل في السعودية ".
لكن عندما يتعلق بالاستثمارات الإقليمية والدولية، فإن ثمة حالة توافق بين الخبراء على أن الأمر يبدو مختلفا.
الجدير بالذكر أن دولا خليجية ومنها السعودية، تتنافس لتعزيز نفوذها الاقتصادي في دول مثل مصر على مدى السنوات الماضية فيما شمل سباق التنافس دولا تعصف بها أزمات اقتصادية ـ مثل تركيا ـ جراء تراكم الديون. وعلى وقع ذلك، قامت دول الخليج الثرية بضخ استثمارات في هذه الدول بشكل كبير في فترة اعتبرتها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بأنها تمثل "موسم للتسوق".
وفي سياق متصل، قال ستيفان رول، رئيس قسم الشرق الأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن الرياض تدفع "مصر لبيع الشركات الرابحة المملوكة للدولة أو بيع أسهم الحكومة المصرية في الشركات الخاصة التي تحقق أرباحا كبيرة".
وأضاف أن تقارير حديثة كشفت عن أن الشركة السعودية-المصرية للاستثمار التي تأسست مؤخرا ومملوكة بشكل كامل للصندوق السيادي السعودية "قامت بشراء أو ضخت استثمارات في شركات مصرية، لكن الأمر لا يحظى بالشفافية خاصة وأن المجتمع المدني المصري يساوره القلق حيال ذلك ويطرح تساؤلا مفاده "هل جرى بيع البلاد؟""
وفي ذلك، قال رول إن السعودية ما زالت حتى الآن تبدي اهتماما أقل بالنفوذ السياسي لصالح إبرام صفقات تجارية جيدة ومربحة.
بدورها قالت سارة بازوباندي، الباحثة في المعهد الألماني للدراسات العالمية والمناطقية (GIGA) ومقره هامبورغ، إن "موسم الشراء الخليجي" جاء بعد "ازدهار في أسواق النفط وهو بالأمر غير المفاجئ. من المهم أن ندرك أن تعظيم العوائد المالية يعد أحد أكثر الدوافع شيوعا لهذه الصناديق".
لكنها أشارت إلى أن "أي شكل من أشكال الاستثمار يسعى أيضا وراء تحقيق فائدة لصالح المستثمر. وإذا كان المستثمر حكومة، فقد تكون هناك أيضا مصالح غير مالية ".