عبدالعزيز السماري- الجزيرة السعودية-
تناقلت وسائل الإعلام خبر تزايد أعداد السعوديين المقيمين بصورة دائمة في الخارج، وجاءت مطالبات من مجلس الشورى إلى ضرورة دراسة الظاهرة وأسبابها، وتم تقدير عدد الذين يعيشون في الخارج بنحو مليون سعودي، وهو رقم يثير الدهشة والتساؤل، ولا يمكن تجاوزه بدون محاولة فهم الأسباب، ولم يهرب هؤلاء للعمل في الخارج، فالبلاد تستقدم الأجانب للعمل، وفرص العمل متوفرة أكثر من الدول المهاجر لها.
أغلب الظن أن هؤلاء يعيشون حالة التقاعد أو رجال أعمال، فضّلوا الحياة في الخارج لأسباب موضوعية، ومنها أنهم يبحثون عن نوعية العيش، ويهربون من بيئة الكآبة، وعادة ما يكون كبار السن معرضين للإصابة بالإحباط والكآبة لأسباب نفسية اجتماعية، لذلك يهربون لمجتمعات يغلب عليها التسامح، وتكون فيها الحياة الترفيهية والسياحية طبعاً أكثر من تطبُّع.
مهما حاولنا الهروب من الموضوع، نحن نعيش حالة صراع بين فئات ترغب في أن تطرد الكآبة من حياتها، وتبحث عن حياة سعيدة، بدون «نكد» اجتماعي بسبب تدخلات الآخرين في حياتهم، وبين آخرين يعتقدون أن الحياة معسكر دائم لما بعد الحياة، وأن الناس يجب أن يُرغموا على ذلك، ومن يختار غير ذلك الطريق يُطارد في حياته الدنيا إلى أن يرضخ ويجثو على ركبتيه، أو يتم فضحه أمام الناس بعد اختراق خصوصيته.
لا يمكن فهم تلك الأبعاد إلا بالتوقف عند بعض الحالات الاجتماعية، ومنها على سبيل المثال تعابير الرعب التي أراها على وجوه مقدمي الخدمة في المطعم أو البقالة أو الصيدلية أو محطة البنزين، قبيل أن يسمع صوت الأذان، ويقوم بطرد الزبائن من المحل بصورة غير لائقة، وذلك حتى لا يكون في قضية مباشرة مع الهيئة، تنتهي بإغلاق محله أو مطعمه.
بينما العلماء يدركون جيداً أن إغلاق المحلات أثناء الصلوات الخمس ليس واجباً دينياً، ولم يُطبق في عهد الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، فيما عدا صلاة الجمعة، ومع ذلك نزايد على ذلك، ونطارد الناس في محلاتهم من أجل إغلاقها، هذا بالإضافة للتدخل التعسفي في حياة الناس، ومطاردة النساء لتغطية وجوههن، وطرد الشباب من الأسواق التجارية، ومساءلة الأزواج عن علاقتهم ببعض في المطاعم.
هذا النموذج من الحياة طارد للفئات غير العاملة، وأعني المتقاعدة عن العمل، والذين يبحثون عن حياة اجتماعية غير طاردة للسعادة، وفي المجتمع السعودي تحتاج إلى وجاهة خاصة وأموال طائلة من أجل أن تتمتع بحياة مستقلة عن المجتمع، إما في قصر أو مزرعة خارج المدينة، تمتد أطوالها إلى أميال.
في جانب آخر، تفتقر بعض الضواحي حول المدن إلى الخدمات الضرورية، إذا اختار أحدهم أن يعيش فيها، والمحبط في الأمر أن يظهر في إعلانات رسمية ترسية مشاريع توصيل المياه والخدمات الأخرى في الضواحي، ولكن نكتشف بعد سنوات أن المهمة من إرساء المشروع كانت توصيلها إلى أماكن محدده، ثم تسقط بعدها لوحة المشروع، ولم تصل الخدمات إلى البقية.
ما أود الوصول إليه أن تقديم الخدمات العامة في بعض القطاعات لا تكون عادة موجهة للمجتمع، ولكن تحكمها الاستثناءات، فالمسؤول يدرك أن حرصه على تقديم الخدمة على أكمل وجه للبعض يجعله في أمان وسلام، وإن أدار ظهره للبعض الآخر.
لا بد من الاعتراف أن فلسفة العمل في بعض القطاعات غير موجهة للمجتمع، وتحتاج إلى انقلاب في تلك المفاهيم ومحاسبتهم على النظرة القاصرة، وأن نواجه حقيقة أن لدينا أفكاراً مناوئة للسعادة والسرور، جعلت منهما حالة نادرة في المجتمع السعودي، وبالتالي مكلفة لدرجة خيالية، وتحتاج في كثير من الأحيان إلى قوة مؤثرة، وذلك لطرد أولئك المتطفلين من حياتك العامة، والذي يرون أن من حقهم مشاركتك في حياتك، لدرجة التحكم بها في كل مكان وزمان.
لهذه الأسباب وغيرها ربما اختارت نسبة غير قليلة من المليون سعودي أن يعيشوا حياة التقاعد خارج الوطن، على طريقة «خلك بعيد، حبك يزيد»، وربما كان خيار بعضهم اضطراراً، وذلك لئلا تواجه إحدى بناتهم مثلما ما تعرضت له فتاة النخيل مول، أو حتى لا تكون فضيحة أحدهم على كل لسان بسبب صورة تم إنجازها على أكمل وجه، ليكون عبرة لمن لا يعتبر، والله المستعان.