شافي الوسعان- الوطن السعودية-
ليس هناك أفتن للإنسان في دينه من أن يُحرَم مما يُحِب، ويُنزَل في منزلة متدنية، لذنب لا علاقة له فيه، وواقع لا يمكنه تغييره، ثم يُقَال له هذا هو الدين، والويل لك إن لم تُسَلِّم وتنقاد!، ففضلاً عن أن هذا العمل غير منطقي، ويتعارض مع أبسط معايير العدالة وحقوق الإنسان، بل يصطدم مع قطعيات الدين، ونصوصه الواضحة الصحيحة، فإنه يتناقض مع حوادث تاريخية تخبرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام، قد زوَّج زيداً المولى بزينب بنت جحش القرشية، كما أشار لفاطمة بنت قيس القرشية أسن تقبل بالزواج من أسامة بن زيد مع أنه من الموالي، وكذلك تزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبدالرحمن بن عوف الزهرية القرشية، لكننا مع ذلك نفاجأ بين وقت وآخر بحوادث تتعلق بتكافؤ النسب وتقسيم الناس إلى شريف ووضيع، ولعلَّ بعض الإخوة القراء قد وصلهم المقطع الذي تم تداوله على نطاق واسع في نهاية الأسبوع الماضي من خلال بعض الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، ذلك المقطع الذي عُرف بفتاة العيينة، وفيه تظهر فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها تشكو باكية من الحكم القضائي الصادر بالتفريق بينها وبين زوجها بدعوى "عدم تكافؤ النسب" رغم أنها في مراحل حملها الأخيرة، وقد كانت عَبَرات الفتاة وعباراتها وتهدج صوتها هي الأبلغ في وصف مشاعرها وحالتها النفسية، وتصوير ما وصلت إليه من التسلط والبؤس والقهر والضياع، بما لا نحتاج معه إلى أيِّ وصف آخر، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
لست أريد في هذا المقال أن أتحدث عن الحكم نفسه، بقدر ما أني أريد مناقشة قضية "تكافؤ النسب" بشكل عام، لسببين؛ أولهما: أن الحكم في مراحله الأولى، ولم يكتسب صفة القطعية بعد، وثانيهما: أن القضاء لدينا محل ثقة ونزاهة واحترام، مع اعترافنا بحاجته إلى التقنين والتطوير والمراجعة، وهو ما تقوم به الدولة حالياً، وترصد المليارات من أجله، مع يقيني بأهمية نقد الممارسات الفردية الخاطئة، لأن حادثة واحدة شاذة كفيلة بتشويه سمعة القضاء بأكمله، ومن الممكن أن تُستَغل من قبل الأعداء في الإساءة إلى الوطن، خصوصاً حين تتعلق بالحريات الشخصية وحقوق الإنسان، لكن نقدها في حال ثبوت عدم صوابها هو أشبه بإعلان البراءة منها، وإدخالها في خانة الأخطاء الفردية التي لا يسلم منها أي قضاء في العالم.
إننا لو افترضنا جدلاً أن قضية "تكافؤ النسب" قضية خلافية، فهل يجوز فرض الرأي في قضايا خلافية، والقاعدة تقول: (لا إنكار في خلاف)، ولنفترض أيضاً أن إنساناً ما حصل على حكم في قضية معينة عند أحد القضاة بسبب أن هذا القاضي يرى الرأي الذي هو في صالحه، ثم ذهب خصمه إلى قاض آخر يرى رأياً آخر مخالفاً لرأي القاضي الأول، فحكم لصالحه بما يتناقض مع الحكم الأول، فأي الحكمين سيكون هو الأصح؟!
من وجهة نظري أن القضايا الخلافية لا يجب أن يُلتَفَت إليها من قضاتنا الأفاضل، ومن المُفترَض أن يُنظَر إلى قضايا "تكافؤ النسب" على أنها خيارات شخصية تعود إلى الأفراد أنفسهم، يزوجون من شاؤوا ويمتنعون عن تزويج من شاؤوا، ومن غير اللائق أن تكون سبباً في التفريق بين زوجين، بل الأجدر أن يُحاكَم أولئك المطالبون بالتفريق بحجة "عدم تكافؤ النسب" على اعتبار أن ذلك شكل من أشكال التمييز والعنصرية، كما أن فتح الباب أمام قضايا من هذا النوع سيُثير الأحقاد والضغائن والعداوات بين الناس، لأن هنالك متعصبين ما زالوا يعيشون في عصر داحس والغبراء، ويتعاملون مع أنظمة الدولة كما يتعاملون مع أعراف شيخ القبيلة، معتقدين أن بإمكانهم إخضاع تلك الأنظمة لأهوائهم ومصالحهم الشخصية، فما إن يغضب أحدهم على شخص أو جماعة لأتفه الأسباب، حتى يحشد ضدهم كل ما لديه من علاقات وجاه ومال ومكانة اجتماعية من أجل الإساءة إليهم، والطعن في أنسابهم، وحين لا يجد قوانين صارمة تردعه، أو يجد من يستقبل دعواه فسيُشغل الناس والمحاكم بقضاياه الشخصية ومعاركه الجانبية وعقده النفسية.
من الواجب في تطوير القضاء أن تنفتح الأحكام على جميع المذاهب الإسلامية لتستوعب الكل، بما لا يدع مجالاً لأحد كي يتعصب لآراء معينة على حساب غيرها من أجل التيسير على الناس، كما يجب أن يُنظر إلى الخلاف على أنه رحمة بالناس، وعلى الذين يتعصبون لاشتراط "تكافؤ النسب" في الزواج، أو يؤيدون الفصل بين زوجين لهذا السبب أن يضعوا أنفسهم مكان أولئك الضحايا، فإن ارتضوا ذلك فلا ريب أنهم مخالفون للفطرة، وإن لم يرتضوه لأنفسهم فلماذا يرتضونه لغيرهم، أما أنا فالقضية محسومة في نظري، وخلاصتها توجز في عبارة "لقد لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية".