مجتمع » ظواهر اجتماعية

«الكوميديا» السعودية الساخرة في مواجهة الفساد

في 2016/11/09

لم يعد هذا الزمن مرهوناً لأدوات توجيهية عليا تتحكم بالمجتمع وتفرض عليه إرادتها. أن تختار له كيف يفكر وماذا يقول وكيف يقول! بعدما خرجت أدوات الضبط الاجتماعي ووسائله التقليدية من بين يديه، ويتشكل الرأي العام من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة الأكثر انفتاحاً وشمولية وسهولة وسرعة، على طريقة الهرم المقلوب، فعوضاً عن انتظار توجيهات القمة الهرمية للسماح بالتعبير عن الرأي، ناهيك عن الرأي المختلف المشتمل على النقد اللاذع، الخارج عن نطاقات التوتر أو التشنج، لتحل السخرية محله، وتسري في أوصال المجتمع كسريان النار في الهشيم.

السخرية هي محصلة نهائية لكل أوجاع الناس وآلامهم الخارجة من رحم المعاناة، وكما يقال «شر البلية ما يضحك»، فقد جاءت السخرية السعودية على مقاس هذه الابتلاءات التي مني بها بعض المسؤولين وإداراتهم، ثم تصريحاتهم المشتملة على معلومات واهية، بما ينمّ عن استهانة بعقلية المتلقي، وعدم اكتراث للمركز القيادي الذي يعبّر عنه.

لن أستعيد هنا كم التعليقات الشبيهة بـ«الكاريكاتوريات» الساخرة، فشبكات التواصل الاجتماعي تغص بها، ما يدعونا للتأمل في معانيها الحقيقية، وما تستبطنه من رسائل يجب علينا عدم إهمالها وتمريرها كأن شيئاً لم يكن، فالإنسان يبكي من الوجع، ويرتقي عليه بما هو أبلغ في مرحلة النضج إلى السخرية والضحك.

مما يعني أن تجارب الأمم تكتمل عندما تصبح لديها قابلية لتجاوز محنها باكتشاف هوية الضحك من عمق المأساة، وتبلغ قمة فصاحتها وبيانها عندما تكون مشمولة بالسخرية، لأنها اختارت أن تكون أمة ضاحكة على مآسيها وساخرة منها، لا أمة باكية متباكية بما لا يحصد معه سوى الآلام التي لا تثمر سوى عاصفة من الأحزان الدامعة.

إلى وقت قريب كنا نقول النكتة مصرية ومعها السخرية كذلك، ونحن نعلم رصيد هذه الأمة - أعني المصرية - من المآسي والآلام على مر التاريخ، لذلك وعبر فترات متلاحقة بالأزمات علمتها أنه ليس أفضل من التعالي عليها بالسخرية التي أصبحت وسيلة من وسائل التوجيه والبناء، لذلك الناس يحبون مصر والمصريين، ويأنسون لهم وبهم، لأنهم لا يرونهم على رغم مآسيهم سوى ضاحكين ساخرين، فهل انتقلت هذه العدوى الحميدة إلى مجتمعنا السعودي؟

فإلى وقت قريب لم يكن ينظر إلينا إلا على أننا مجتمع متحفظ في كل شيء، بما في ذلك التبسط مع الآخرين والتفكه معهم، لذلك اتجهنا بحثاً عنها إلى وسائل المتعة والمبالغة في اقتنائها، ربما حينها كنا نتضاحك في لقاءاتنا الخاصة، أو عند مشاهدة كوميديا من نوع ما قد لا يعنينا منها سوى الضحك، ومع ذلك لا يعني لنا في مجالسنا العامة تبادل أمثالها من النكات والطرائف إلا ما ندر، حتى وصمنا الآخرون بأننا مجتمع عابس متجهم من خصوصياته النهي والأمر.

أخيراً وفي سنوات قليلة اكتشفنا خاصية الضحك والسخرية لا خصوصيتها، وتحديداً من اليوم الذي اكتشفنا فيه عالم الإنترنت السحري عبر الأجهزة النقالة، وما يحفل به من شبكات التواصل الاجتماعي (واتساب، فيسبوك، تويتر، سناب شات، الكيك) هذه وحدها أدوات الاكتشاف الحقيقية لأرواحنا الخفيفة.

مذاك ونحن ندرب أنفسنا على التحليق والطيران بخفة أنفس لا تثقلها الأقفال التي كانت وهماً تكبلت بها العقول قبل الصدور، حتى تجرأنا بلا خوف أو وجل على التعاطي مع كثير من الممنوعات، بأساليب ساخرة ومضحكة، وأحياناً بفجاجة جارحة للأخلاق والأعراف، وأكاد أجزم أنها لم تكن لتصدر على هذا النحو لو لم تكن ردود أفعالها على أدوات الرفض والممانعة الصارمة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم دينية، فعلى قدر الفعل يكون رد الفعل.

فإلى وقت ليس بالبعيد كان ينظر إلى الضحك على أنه يميت القلب، ثم اكتشفنا صحة المثل اللاتيني القائل «من الأفضل أن تثير الضحك من أن تثير الاشمئزاز»، حتى أصبح الضحك لدينا بمثابة عريضة احتجاج على كثير من القيم والعادات المستهلكة، ثم تشكل أخيراً ليكون وسيلة للسخرية.

هذه التجارب الجديدة على مجتمعنا، أقصد تجارب الضحك الساخر أو السخرية الضاحكة، تتسع بين الناس لتفكك حزم التجهم المنعقدة على وجوههم، فكثرة المداومة عليها واستخدامها وسيلة للتواصل الذكي بين الناس هو ما سيغيّر من طبيعة الاحتقان المؤدي إلى كثير من الأمراض النفسية والعصبية.

وهو كذلك وسيلة لكشف عور أخلاقنا وعاداتنا، وهو أيضاً للنقد غير المباشر لكل مناحي الحياة وتعرية الفساد، قد نحتاج إلى وقت طويل لإعادة برمجتها بما يتواءم مع ثقافتنا، فهناك ثمة ملامح بدأت تتشكل لها أخيراً، ولعل أبرزها تلك الحملة التهكمية الساخرة على بعض المسؤولين الذين خانتهم مواقفهم وأصدروا تصريحات لا تنم عن حصافة أو حكمة ظناً منهم أنها ستذهب أدراج الرياح، إلا أنها سريعاً ما علقت بصنارة الساخرين، ليتحولوا معها ملهاة درامية ساخرة منهم، تلقن المسؤولين الآخرين دروساً لم يعوها من حكم السابقين وأشعارهم، لأنهم أبعد ما يكونون عن الأدب، فلو استلهموا حكمة الشافعي بقوله:

إذا رمت أن تـحيا سليماً من الردى

ودينك موفـور وعرضـك صيـن

فلا ينطقن منـك اللسـان بسـوأةٍ

فكلـك سـوءات وللنـاس ألسـن

وعينـاك إن أبـدت إليـك معايبـا

فدعها وقل يا عين للنـاس أعيـن

ولن يصادق على عمق المعنى الذي ابتغاه الشافعي ومراميه سوى زماننا هذا، الذي أصبحت فيه شبكات التواصل الاجتماعي هي ألسنة الناس المعبّرة من دون قيود من اسم أو رسم ما دامت أنها تعبّر عن حقيقة الأوضاع القائمة، وتخرصات بعض المسؤولين في تصريحاتهم العشوائية التي تتجه في أغلبها بطرق سلبية للانتقاص من المواطن الأعزل من دون أدنى سلطة سوى سلطة اللسان.

محمد عبد الله المزيني- الحياة السعودية-