سعيد سلطان الهاشمي- السفير اللبنانية-
◄ استدامة وتوسع الفئة الوسطى مرتهن بانتاجية تحقق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني وللدخل الشخصي أيضا.
◄ يعود انخفاض معدلات الأجور لانخفاض الانتاجية لذلك يتسع الفقر ويقترب من الفئة الوسطى مما يصيبها بالتآكل.
◄ تمّ تفويت مراحل الوفرة ولم يُستفد من دينامية عائدات الحجم والتغير التكنولوجي.
◄ شكل الاقتصاد الحالي أعاق تنمية قوى عاملة ماهرة وجاهزة للتشكل.
◄ ترى الطبقة الوسطى جهاز الدولة وسيلة احتكار فئوي لمزايا ومنافع وهكذا تراها أطراف متصارعة معها أو متضررة منها.
* * *
يعترض واقع الفئة الوسطى (الطبقة الوسطى) في عُمان جملة تحديات ليست بالمفاجِئة إذا ما وضعنا في الاعتبار ظروف تعايشها مع شكل الدولة العُمانية المعاصرة، وحدود الدور الذي ارتضت ممارسته في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
وفي ظل الضبابية التي تكتنف الرابطة القائمة على قيم المواطنة والوفاء بالتزاماتها تجاه الفرد وتجاه الجماعة الوطنية، تستعيض الفئة الوسطى عن ذلك بسلوكيات الولاء للسلطة المركزية ولمؤسساتها التنفيذية والأمنية، لظنها أن:
"الطرف الماسك بالدولة أو الموظّف لها يرى أنها وسيلة نحو احتكار المزايا والمنافع في خاصته أو جماعته أو طائفته أو قبيلته أو قوميته، أو هكذا ترى فيها الأطراف الأخرى المتصارعة معها أو المتضررة منها".
كما ارتبط في المخيال العام، وبعد تجارب تقترب من خمسة عقود - بأن هذا النوع من الولاء ضامن موضوعي للرفاه والأمان النفسي والاجتماعي. بيد أن ظناً كهذا لا يصمد طويلاً أمام الكثير من التحديات التي تجابه هذه الكتلة البشرية، والتي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر التالي:
التآكل
تواجه الفئة الوسطى في عُمان تحدي التآكل والإنكماش. على الرغم من النسبة المتنامية التي تشكلها من معمار المجتمع العماني المعاصر، إلا أن هذه النسبة لا تعتمد على منابع راسخة لعملية انتاج كفؤة بقدر اعتمادها على شكل الدولة المعاصرة التي تُنفق على متوالية أزمات سببتها سياساتها الاقتصادية السابقة دون الاكتراث لاستحقاقات المستقبل وأجياله.
من مظاهر التآكل هو مسار مستوى الأجور الحقيقية في البلاد الذي ينمو بنسبة أقل من 1% مقابل نمو الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 5%، وحصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت إلى 28% في العقد الأخير.
لقد تم تبديد عوائد النفط لتحقيق نمو اقتصادي سريع، مشغول بشراء ولاءات لحْظية لا ترى المستقبل أكثر من وسائل تنعّم سطحية. وأغفل الاستثمار في قطاعات إنتاجية تحقق قيمة مضافة عالية ومستدامة كقطاعات التصنيع واقتصادات المعرفة.
اعتماد الاقتصاد العماني على الواردات والخدمات ذات القيمة المضافة المنخفضة لن يساهم جذريا في استيعاب الأجيال القادمة عموماً والفئة الوسطى بشكل أخص، ولا في استثمار طاقاتها كما يجب.
على العكس تماماً: اقتصاد بهذا المسار وخيارات بهذا الضيق لن يساهما في تنمية المعارف المحلية. لقد تم تفويت مراحل الوفرة ولم يُستفد من دينامية عائدات الحجم والتغير التكنلوجي.
والأخطر من ذلك أن شكل الاقتصاد الحالي أعاق تنمية قوى عاملة ماهرة وجاهزة للتشكل، لذلك لا غرابة من انخفاض معدلات الأجور الحقيقية لأنها ببساطة تعكس انخفاض مستويات الانتاجية. نتيجة لذلك ستتسع معدلات الفقر وستقترب من الفئة الوسطى مما قد يصيبها بالتآكل.
التواكل
تعاني الفئة الوسطى في عُمان اليوم من متلازمة "الانتظار والتواكل".. الحرص على رفاه اليوم دون الاهتمام بحقوق وواجبات الغد. حيث يلخصها المثل الشعبي الدارج "إذا سلمت ناقتي ما عليّ من رفاقتي"!
وهي متلازمة خلّفها نمط اجتماعي معقّد بالصراعات المختلفة، ولم يحرص على تفكيكها النمط السياسي والاقتصادي الذي أدارت به السلطة البلاد طوال الفترة الماضية. هذا النمط، اتكأ في شقه الاقتصادي على ريع عوائد النفط، وفي شقه السياسي انشغل برضا وخضوع الفئة الأكبر من الشعب.
يقف الجهاز التنفيذي العُماني اليوم في حيرة عن استحداث الكم والنوع الكافيين من فرص العمل اللائقة للقادمين الجدد لسوق العمل من المواطنين. وقد تزداد الأمور تعقيداً خاصة إذ ما وضعنا في الاعتبار أن 42% من العمانيين اليوم هم من الأطفال دون 17 عاماً، يتجاوز عددهم مليون نفس.
وأن أكثر من 31.4% من العاملين في القطاعين الحكومي والخاص هم من فئة الشباب (15-29 سنة). إن كل هذه المؤشرات تستحث الجميع سواء الدولة أو الناس على تغيير النمط الذي يدير البلاد ويتحكم بمستقبلها القريب.
ليس من مصلحة حتى السلطة السياسية الاستمرار في السياسات ذاتها التي تضعف القاعدة الانتاجية في مقابل خضوع الجماهير تجنباً لمطالباتها بالمشاركة السياسية. بل أن الفئة الوسطى الحالية لن تنفعها المكافآت السخية التي أغدقتها السلطة عليها في مقابل دعمها غير المشروط.
إن هذا الدعم المتمثل في وظائف تدرّ أجورا مرتفعة نسبياً وإعانات سخية لن تعالج التشوهات الهيكلية في بنيان الاقتصاد الحالي وستزيد الأمور سوءاً لأنها تسحب من احتياطيات الأجيال القادمة وتهدر ثرواتها بلا عوائد مضمونة تكفل استدامة مطمئنة.
التفاوت
يواجه الفئة الوسطى في عُمان تحدي التفاوت متعدد الأبعاد: تفاوت نوع العمل، تفاوت حسب النوع الاجتماعي، وتفاوت الحضر والريف.
- على مستوى التفاوت بحسب نوع العمل، لا تتجاوز نسبة المهنيين العُمانيين من الفئة الوسطى 15% بينما تنخرط النسب الأكبر في العمل في القطاع العام والقطاع العسكري والأمني. تكمن خطورة هذا التفاوت في أن استدامة وتوسع الفئة الوسطى مرتهن لقاعدة انتاجية تحقق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني وللدخل الشخصي على حد سواء.
أما التعويل على رواتب ومعاشات تدفعها الدولة المعتمدة على تصدير سلعة واحدة، مهددة بالنضوب أو البوار، كالنفط، فإن ذلك يكرس مأساة الفئة الوسطى ولا يتحرك بشكل عاجل للتخفيف من عواقبها.
- أما بشأن التفاوت حسب النوع الاجتماعي، فمساهمة المرأة العمانية في الفاعلية الاجتماعية والاقتصادية للفئة الوسطى فقد اتسمت بالسمات السائدة لعموم المجتمع:
تكدس في القطاع العام، وانتظار التوظيف المركزي، مع مشاركة متواضعة في القطاع الخاص وانحسار مخيف في قطاع المبادرات والحرف والصناعات اليدوية.
هذا إذا ما علمنا أن المرأة كانت أبرز مثال في المجتمع العُماني على تكريس مُثل الاستقلال المالي والإعالة الأسرية عن طريق الحرف والمهن ذات القيمة المضافة في الاقتصاد المنزلي كالخياطة والدباغة والرعي والزراعة وصناعة العطور والخزفيات والنسيج.
أما حاضر نساء الفئة الوسطى فيظهر أن 41% من التوظيف في القطاع العام للنساء، بينما لا تتجاوز نسبتهن بالقطاع الخاص 23 %.
- أما بالنسبة الى التفاوت المناطقي، فتتوزع الفئة الوسطى في عُمان على نحوٍ يُنذر بتكريس لامساواة خطيرة في شأن توزيع التنمية على مناطق البلاد: 62.3% في المناطق الحضرية، 37.7% في المناطق الريفية، ويؤكد هذه التفاوت عدم الانتباه المبكر لظاهرة هجرة أهل الريف إلى الحواضر.
هذا رغم وضوح عواقبا ومآلاتها الخطيرة في كثير من الدول العربية على مستويات اجتماعية وسياسية وأمنية، إذ شكّل هذا التفاوت اختلالاً ملموساً على مستوى الخدمات، ظهر في ازدياد النزوح السكاني إلى مسقط، والضغط على الخدمات المتوفرة فيها وكفاءة تشغيلها وصيانتها.
وقد أظهرت نتائج دراسات رسمية "أن سكان القرى أقل قدرة بشكل واضح من سكان الحضر في الوصول إلى الخدمات العامة. كما أن متوسط استهلاك الأسرة أعلى في الحضر عن نظيره في القُرى العُمانية".
زاد على ذلك، مركزية صنع القرار الذي تتحكم به الوزارات والأجهزة الرئيسية، والتي تتخذ من العاصمة مقراً لها، ومحدودية التفويض الممنوح للمكاتب والمديريات المتوزعة في كل محافظة ومنطقة، إضافة إلى صُوَرية المجالس البلدية وعدم قدرتها، بفعل نصوص تشكيلها وتكوينها، على اتخاذ أي قرار وتطبيقه وتوفير المخصصات المالية اللازمة لتنفيذه إلا بعد اعتماد الأجهزة المركزية في العاصمة.
هذا الواقع أثّر بشكل جذري على انحسار الصناعات التقليدية، ومصادر الرزق الأولية، والتي كانت القرى والأرياف حواضنها الآمنة ومنابعها المستقرة منذ القدم كالزراعة وصيد الأسماك وحرف الدباغة والنسيج والفخاريات وصياغة المعادن المختلفة وغيرها.
فعلى سبيل المثال: تراجعت معدلات نمو أنشطة الزراعة والأسماك في الناتج المحلي الإجمالي إلى 9.7 % في 2015 مقارنة بما كانت عليه (15.7% في 2013). وكذا الحال في شأن الصناعات التحويلية التي تراجعت إلى ناقص 13.4% بعدما كانت معدلات نموها 4.3% للفترة نفسها.
فغالبية السكان هجروا هذه الصناعات الأساسية في اقتصادهم لصالح الوظائف الحكومية التي عطّلت القدرات الإنتاجية والمهارات الأساسية، ليس بين أوساط الجيل الشباب فحسب بل وبين أهل المهن والحرف المَهَرة أنفسهم.
ولأنه ليس باستطاعة هذه القطاعات مجاراة قطاعات النفط والمقاولات والمضاربات المالية. شجع هذا نشوء أزمات اقتصادية متواصلة، وحفّز نمو نشاطات طفيلية، كالبطالة المقنعة بمؤسسات الحكومة، والاتجار بتأشيرات القوى العاملة الأجنبية، وشيوع المحسوبيات، والإثراء من الأراضي والعقارات التي تملكها السلطة لخاصتّها والمقربين. وقبل ذلك، ربط حياة الناس وأرزاقهم بمركزية السلطة.
التقايض
يرى تيري لين كارل أن "الأموال التي تتدفق على خزائن سلطة شديدة المركزية تقود لمزيد من تمركزها، مشجعة نسيج العلائق الريعية بين السياسيين والرأسمالين. وهكذا تتولد حلقة مفرغة من نتائج التنمية السلبية والتي ترسخ التبعية الأحادية وتفسر أحجية مفارقة الوفرة".
من هذه النقطة بالتحديد، ومن بوابة "سخاء السلطة" على القطاعات المعيشية المباشرة كقطاعات التعليم والتشغيل والصحة، ومن خلال "الأعطيات" والمنح والهبات التي تستهدف بعض المكونات الاجتماعية ذات الصوت المسموع كشيوخ القبائل ومشايخ المذاهب الدينية وبعض القيادات الأمنية والعسكرية، بالإضافة لبعض المثقفين والكتاب والأكاديميين.
مع الرهان على العائلات التجارية المضمونة الولاء، وبمعية مختلف المكونات، استطاعت السلطة المركزية في عُمان أن تكون بمأمن عن أي ضغط حقيقي وجاد وواضح البرامج، من قبل الفئة الوسطى، لأجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي.
إذ بفعل هذه الطريقة ظلت الفئة الوسطى حذرة من ممارسة نقد منظّم للنظام الحاكم ولسلطته المركزية، "لقد اعتمد النظام على الفئة الوسطى بقدر ما اعتمدت هي عليه".
بل إن هذه الفئة، على امتداد العقود الخمسة الماضية، رأت في المساعدات الاجتماعية والمنافع الاقتصادية وشكلانية المؤسسات السياسية المقدمة من السلطة والمتحكمة بتفاصيلها - رأت فيها ثمناً ضامناً للصمت عن تجاوزات هذه السلطة، حرصاً على "السلم الاجتماعي"، ودرئاً للفتن المستهدفة لـ"الوئام الوطني".
بل ظنت هذه الفئة بأن تحكّم الدولة في الاقتصاد، ومركزيتها في الإدارة، واختراقها للفضاء العام، وسيطرتها على النشاط المدني، كلها ضمانات لحماية مصالحها الفئوية. دون النظر لعواقب هذه المقايضة على الاقتصاد الكلي ولا على التكوين الاجتماعي برمته.
ولأن السلطة صاحبة الكلمة الفصل في تحديد واقع قرارات مصيرية في نوع التعليم وكم التشغيل وتفاصيل نظام الحماية الاجتماعية، يبدو أن الفئة الوسطى في عُمان ارتضت بمقايضةٍ سلطوية مفادها:
بدلاً من المطالبة بعقد اجتماعي قائم على المساءلة المتبادلة بين النظام الحاكم والشعب من خلال الحوار الاجتماعي والمشاركة السياسية الفاعلة المرتكزة على رقابة المال العام ومحاسبة التنفيذيين ومكافحة الفساد - بدلاً من كل تلك المنظومة من حقوق الموطنين وحرياتهم: الاكتفاء والرضى بوعود الأمن والرفاه الاجتماعي.
مختتم
لا تقف الفئة الوسطى في عُمان على أرضية صلبة. حيث أغلب أفرادها لا يزالون يتكئون على وشائج النسب أكثر من رهانهم على عروة الانتساب. نسب الهويات البدائية كالقبيلة والأسرة والمذهب أكثر من الانتساب إلى قيم المواطنة وطرائق إنتاج رأس المال البشري والمادي.
كما أن طبيعة نشأة هذه الفئة، وحدود دورها الراهن مع السلطة المركزية قد أصابها بشلل تكويني عطّلها عن القيام بدورها الكافل للتوازن الاجتماعي، والاستدامة الاقتصادية، والتطوير السياسي، والمبادئة الثقافية.
إن ما يجري من تحولات متسارعة في النسيج الإجتماعي العُماني المعاصر ينبئ بإشكالات خطيرة، إذا لم يتم الانتباه لها سريعاً ومعالجتها بشكل جذري يُراعي الأعراض الجانبية المصاحبة، فإن مفهوم "دولة الأمن والرفاه" سيكون على المحك.
فالجرأة التي اكتسبتها الأجيال الناشئة من أجواء انتفاضات الربيع العربي، مع ترنحات أسعار النفط المستمرة، في مقابل التكبيل السياسي والاقتصادي للمواطنين في إدارة وتسيير القطاع العام وعزلهم عن المشاركة الفاعلة، سينجم عن كل ذلك تنمية مشلولة.
إذ لم يعد كافياً ولا مقنعاً رهان السلطة على صناعة حالة من الفخر الوطني والاعتداد بالإنجازات السابقة بينما يكابد المواطن نتائج سياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية قصيرة الفائدة وباهظة التكاليف، والأنكى أن هذه السياسات غير قابلة للنقد ولا النقض ولا التقويم.
ومع انتقال الاقتصاد من سعة الوفرة إلى ضيق الندرة لن يكفي أي سلطة تشبثها بالمفهوم الضيق والتقليدي للأمن، ولا كرمها في توزيع حصص الامتيازات بحسب الولاءات، ولن تسعفها مخازن الأسلحة المكدسة ولا الجيوش والعساكر المُدربة.
العكس هو ما يتوقع حدوثه: المزيد والعميق من الانفجارات، لأن الموارد اُستنزفت، الثقة في الإدارة العامة فُقدت، الأفواه زادت.
الرهان على مفهوم أمن إنساني واسع ومنصف، يضع نصب عينيه الإنسان كقيمة عليا في ذاته، مستحق لعدالة اجتماعية ناجزة ومستدامة قد يكون أحد المخارج الأكثر موثوقية للخروج من انسداد كهذا.