عباس المرشد- البيت الخليجي-
تبدو مجتمعات الخليج – لبعض المراقبين – مجتمعات متجانسة، ذات مرجعية ثقافية واحدة. إلا أن هذا التجانس والتماسك هو الشيء الوحيد الذي لا يدعمه واقع تلك المجتمعات. مع ذلك، فإن تنميط المجتمعات واختزالها في صورة شبه موحدة يعد أمرًا مألوفًا وشائعًا ليس في البحوث الاجتماعية فقط، بل حتى في ما هو أقل علمية، كتقدير الموقف السياسي أو مقالات الرأي المطولة.
من وجهة نظر خاصة، فإن الانزلاق في تعداد أوجه الصراعات السياسية والمجتمعية كالطائفية مثلا، لا يُعد مخرجًا آمنًا من التنميط الثقافي والسياسي المعطى لدول الخليج العربية ومجتمعاتها، لسبب بسيط جدا، هو أننا نتعامل مع واجهات لصورة مترسخة تاريخيًا واقتصاديًا، وهي ليست خيالًا أو وهمًا معرفيًا ضمن أوهام النظريات الاجتماعية. وبالتالي؛ فإن عملية تفكيك الواجهات الاجتماعية والسياسية وإعادة الواجهات إلى أصولها الاجتماعية والسياسية يمثل مهمة بحثية جديرة بالاتباع.
الإرث البدوي: العرق في خدمة السياسة
تشكلت الصورة النمطية البدوية في دول الخليج العربية على خلفية تاريخية اقتصادية، وانتهت إلى ترسيخ الإرث البدوي كإطار عام ووحيد للهوية الخليجية، تبدو الصورة البدوية اليوم عنصرًا مركزيًا في التعاطي مع مجتمعات الخليج العربي. التسويق للإرث البدوي كان ولا يزال يتقوى عبر تبني الأنظمة السياسية في دول الخليج لهذا الإرث، إذ دفعت السياسات الرسمية بهذه الصورة بطريقة مبالغ فيها تحت عنوانين أساسيين، الحفاظ على التراث وإعادة إحياءه، وحماية ما تبقى من هوية الخليج العربي وإعادة بناءها ذاتيًا.
قامت تلك الصورة النمطية على فرضية بدويَّة المجتمعات الخليجية وبنيتها القبلية، وبالتالي غياب الفاعلية السياسية للمكونات الاجتماعية وهامشيتها في ظل صعود وهيمنة القدرة المالية المتعاظمة للثروة النفطية، وانتهاج سياساتٍ ريعية متبذلة، أنتجت اقتصادًا استهلاكيًّا وتراكم ثرواتٍ ضخمة لأفراد الطبقات المتوسطة والثرية أساسًا من خلال تنشيط قطاع الإنشاءات والعقارات.
عمليا لا يشكل الإرث البدوي تمثيلًا عادلًا لمكونات المجتمعات الخليجية، فلا يبدو الطابع البدوي أو القبلي هو الشكل الاجتماعي الوحيد لتلك المجتمعات، فإلى جانب البداوة والقبيلة تبرز اشكال مجتمعية أخرى ربما أكثر فعالية وحيوية من الإرث البدوي، وبالتالي، فإن تراث تلك المكونات المتقاطعة مع الإرث البدوي، يصبح عرضة للمصادرة أو الإقصاء السياسي والمجتمعي.
معنى ذلك إن صورة البدوي التي تبني عليها هوية المجتمعات الخليجية ليست صورة واقعية فحسب، بل إنها في النهاية تظهر لنا كتوظيف سياسي للعرقية التي أصبحت محل اشمئزاز ومدانة في أغلب صورها. فخلف الإعلاء لإرث البدوي والقبلي تقع سياسية إقصائية لمكونات مجتمعية أخرى. وخلف إرث البدوي تقع المدنية المخفية من التسويق الرسمي للهوية الخليجية.
الرعاية البريطانية
تاريخيًا كانت مجتمعات الخليج مجتمعات منفتحة بحكم بالطبيعة التجارية لمجتمعات الخليج العربي كما يسمها خلدون النقيب. وأدت هذه الطبيعة إلى التنوع الاجتماعي والاختلاط العرقي بين سكان هذه المجتمعات وخلق أجناس متداخلة ومختلطة سواء بين ضفتي الخليج أو الطوق التجاري المشترك معها. بحلول منتصف القرن التاسع عشر تحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات مغلقة بعد اتفاقيات 1820 التي عقدتها بريطانيا مع “مشخيات الساحل المتصالح” وقتها. لهذا انحصر التعامل البريطاني بشيوخ القبائل وتسربت الصورة البدوية إلى التدوين السياسي بصورة رسمية، وغابت المجتمعات الخليجية عن المشهد السياسي برمته.
واقعًا لم تسع بريطانيا إلى تجاوز أولئك الشيوخ بقدر ما سعت إلى الإعلاء من مكانتهم عبر تضمين المعاهدات اللاحقة فكرة التابعية أو الرعية واستثناء الأجانب من تلك التابعية. وفكرة الأجنبي هنا لم تقتصر على الفرد الغربي كما توحي دلالتها التداولية في العربية، بل إن الأجنبي المشار إليه هو كل من لا يخضع لسطلة شيخ القبيلة. وهكذا تسبب مفهوم الأجنبي في عزل فئات عديدة ومتنوعة من فئات المجتمعات الخليجية تحت ذريعة أنهم أجانب عن المجتمع الذي يعيشون فيه، مقابل ترسيخ صورة البدوي والقبلي كأصيل ووريث لحق السيادة وصلاحية التدبير المجتمعي. وهذا ما دعا بمفكرين خليجين مثل خلدون النقيب ومحمد الرميحي إلى نقد تلك الصورة وإعادة الاعتبار للمجتمع الخليجي أو حتى محاولة تعقب القبيلة السياسية وتطور بناها السياسية والاقتصادية.
لعنة النفط
بجانب الرعاية البريطانية لتعزيز وضمان هيمنة الطابع البدوي، أدى اكتشاف النفط في ثلاثينات القرن الماضي إلى نتائج معززة لتلك الرعاية البدوية. فعقود امتيازات التنقيب عن النفط كانت تعقد مع شيوخ المشيخات ولم تكن هناك بنيات سياسية مستقلة أو حتى بدائية يمكن الركون إليها لمناصفة تلك العقود أو التدقيق عليها. مع ذلك فإن الوفرة الاقتصادية النفطية قادت المجتمعات الخليجية إلى أكبر عملية انتقالية شهدتها طوال التاريخ وهي الخروج من الاقتصاد القديم “الغوص والتجارة” وشبكاته الاجتماعية إلى اقتصاد السوق ومبادئ الاحتكار السائدة فيه.
من جانب آخر، تحولت تلك الوفرة إلى لعنة أعاقت تطور المجتمعات الخليجية السياسي والارتماء في مسارات الاستهلاك الغبي والرفاهية البعيدة عن الإنتاجية. لقد أنتجت الوفرة الاقتصادية المرتبطة بالنفط مجتمعًا مشوهًا من ناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفقد كل سمات المجتمعات المنفتحة التي كان يتمتع بها قبل 1820م. فكان سهلا أن تتحول الإدارة الاقتصادية لشركات عابرة للوطنية وأن تكون أغلب الوظائف العليا أشبه ما تكون بغنائم حرب توزع على محاربي القبيلة وافخذاها.
المزيج العدائي
تسببت عملية المزج بين الرعاية البريطانية واحتكار الثروة النفطية في بناء صورة نمطية لمجتمعات الخليج العربية تعلي من شأن الثقافة البدوية كمحدد رئيسي لهوية المجتمع الخليجي. ليس معنى هذا أن مجتمعات الخليج العربي كانت تمتلك وعيًا مغايرًا لوعي النخبة الحاكمة ذات الطابع البدوي، بل أن هناك خيطًا رفيعًا قادته النخب المجتمعية الخليجية قادها أيضا إلى تبي الرؤية الاستعمارية، وترويج الطابع البدوي لمجتمعات الخليج. وذلك عندما تبنت أغلب النخب المدنية مفهومًا عنصريًا للقومية العربية باعتبارها الرافعة السياسية الوحيدة وقتها. فعلى سبيل المثال وقفت النخب القومية في الكويت ضد مكونات المجتمع الشيعية وتمثليهم في انتخابات 1938م بحجة عرقهم الفارسي، كما رفضت النخب القبيلة في البحرين الإصلاحات الإدارية والبيروقراطية في 1923م بحجة أنها مدعومة من قبل البحارنة الشيعة.
نتيجة لذلك أضحت كتابة تاريخ المجتمعات الخليجية تحكم بواسطة رواية رسمية واحدة استبعدت كافة العناصر غير البدوية من الهوية الوطنية. وأضحت عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة عملية مشوهة وعقيمة لأن تنتج مجتمعًا متسامحًا أو متعاليا على الصراعات الطائفية والعرقية.
الانتفاضة ضد الإرث البدوي
إزاء ذلك فإن الدعوة إلى اعتماد رواية أكثر شمولية لتاريخ المجتمعات الخليجية تستوعب تراث المكونات الأخرى وتعيد الاعتبار لها ضمن سياج ثقافي وطني عادل، تبدو أكثر عقلانية وأقرب للحداثة المعاصرة، وذلك لعدة أسباب، أولًا؛ لأنها تعيد الاعتبار للفئات الاجتماعية التي تم تجاهلها واقصائها من سردية التشكيل الاجتماعي القائمة على تفوق الإرث البدوي واحتكاره للمكانة السياسية والاجتماعية. وثانيًا؛ من شأن هذه الحداثة أن تقودنا إلى تفكيك الإرث البدوي وتعرية تناقضات السياسات والتدابير المرعية إزاء التنوع الاجتماعي في دول الخليج العربي. أما ثالثًا؛ وهو الأهم، فهو محاولة البدء في انجاز عملية بناء الدولة التي ظلت معطلة منذ بداياتها الأولى في عشرينات القرن الماضي والحكم عليها بكونها عملية غير منجزة، أدت إلى مزيد من التقسيم العمودي للمجتمعات الخليجية، وإلى مزيد من الترهل السياسي والعته السياسي في السياسات والتدابير الداخلية والخارجية.