العربي الجديد-
أكثر من 135 ألفاً هو عدد المتقاعدين والمتقاعدات في الكويت، وهم بمعظمهم يتقاضون رواتبهم التقاعدية من المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، على خلفية عملهم في القطاع الحكومي وكذلك القطاع العسكري. ويعاني المتقاعدون عموماً من جرّاء الفراغ، بسبب انشغال أبنائهم بوظائفهم وحياتهم الأسرية وعدم وجود تشجيع حكومي على تشغيلهم وظائف كثيرة شاغرة تتطلب خبرات وكفاءات مهنيّة، علماً أنّ الحكومة الكويتية تعمد إلى استقدام عمالة أجنبية لتلك الوظائف. وثمّة من يعيد الفراغ الذي يشكو منه المتقاعدون إلى عدم وجود ثقافة تؤيّد عمل المتقاعدين لإشغال أنفسهم، الأمر الذي يؤدّي إلى تمضية كثيرين منهم الوقت في المقاهي الشعبية والديوانيات.
في واحد من المقاهي الشعبية الكبيرة وسط سوق المباركية التاريخي في مدينة الكويت، يجلس حمد الراشد كما في كلّ يوم ويتناول مع متقاعدين آخرين الشؤون السياسية والاجتماعية في البلاد. يخبر الراشد "العربي الجديد": "يبدأ يومي مع صلاة الفجر ووجبة الفطور قبل أن يقلّني السائق إلى المقهى، ثمّ أعود إلى البيت عند صلاة الظهر"، لافتاً إلى أنّ "ما يخفف شعوري ورفاقي بالوحدة هو المقاهي وكذلك الديوانيات التي تُعَدّ نشاطاً اجتماعياً تعرفه الكويت دون غيرها من البلدان". يُذكر أنّ الراشد عمل مدرّساً على مدى 35 عاماً، قبل أن يقرّر التقاعد من تلقاء نفسه بسبب شعوره بالتعب من ملاحقة "الأطفال المشاغبين" على حدّ وصفه.
وفي سوق الأوراق المالية في الكويت، متقاعدون آخرون يحاولون استثمار جزء من أموالهم التقاعدية في هذا السوق الذي يقصدونه في كلّ صباح ويتابعون تقلبات الأسهم، ارتفاعها وانخفاضها. ويعلّق أحد موظفي البورصة ساخراً لـ"العربي الجديد": "إنّه سوق الأوراق المالية الوحيد في العالم حيث لا نجد شاباً واحداً".
في سياق متصل، أطلقت منظمات من المجتمع المدني "المشروع الوطني للمتقاعدين" الذي يهدف إلى الاهتمام بالمتقاعدين والاستفادة من خبراتهم من خلال مشاريع وأنشطة ومبادرات ومؤتمرات تُنظّم لمصلحتهم. ويقول رئيس ومؤسس المشروع الدكتور صلاح العبد الجادر لـ"العربي الجديد"، إنّ "المشروع أقام مؤتمرات وورش تدريب عدّة هدفها تحسين الوضع النفسي للمتقاعدين وتحقيق نجاح مالي واستثماري لهم، إلى جانب تغيير نظرة المجتمع إليهم، فلا يكونون أفراداً غير منتجين بل أفراداً منتجين ولهم مساهماتهم المجدية". ومن المؤتمرات التي نظمها المشروع بحسب العبد الجادر "مؤتمر خبرات" الذي يرعاه رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر المبارك الصباح، فيما "أنشئ لهؤلاء مركز رياضي وديوانية أسبوعية يحضرها عدد كبير منهم إلى جانب الإعداد لإطلاق جامعة إلكترونية خاصة بهم في المستقبل القريب".
والحكومة تقدّم تسهيلات للمتقاعدين عبر تشجيع إدارات القطاع الخاص على توظيفهم والاستعانة بخبرات بعضهم في الإدارات الحكومية، بناء على بند "التكليف" بالإضافة إلى منحهم امتيازات من قبيل افتتاح محلات وشركات باسمهم. لكنّ رشيد الرشيدي وهو متقاعد يقول لـ"العربي الجديد"، إنّه لم يسمع بأيّ من المنظمات أو المؤتمرات من قبل، مضيفاً أنّ "ثمّة عدم تقدير حكومي وشعبي للمتقاعدين واستهانة بوجودهم وخبراتهم الطويلة في العمل في كل القطاعات الحكومية والعسكرية".
والرشيدي الذي كان موظفاً حكومياً على مدى 35 عاماً، حصل بعد تقاعده على رخصة عمل كسائق أجرة في المطار، فالحكومة الكويتية تخصص تلك الوظيفة للمواطنين المتقاعدين حصراً. ويؤكد أنّ "هذه الوظيفة تؤمّن لي دخلاً جيداً كون معاشي التقاعدي ليس كبيراً وتشغلني عن الفراغ الذي يعانيه المتقاعدون عادة". ويرى سائقو أجرة المطار أنّ الشركات الخاصة المتخصصة في النقل تحاول جاهدة إنهاء احتكار هذا القطاع لمصلحة المتقاعدين عبر الضغط على إدارة الطيران المدني بشكل متواصل، الأمر الذي يعني في حال نجاحها فقدان أكثر من 650 متقاعداً مصدر دخلهم الإضافي، خصوصاً مع رواتبهم المتواضعة بسبب التضخم وانخفاض قيمة العملة.
من جهته، يروي مناور الرشيدي لـ"العربي الجديد"، وهو باحث اجتماعي أعدّ دراسة كاملة حول المتقاعدين، حكاية والده، فيقول: "كان والدي موظفاً في الحكومة عندما كنت لا أزال طفلاً، ثمّ تقاعد مع بداية شبابي. حينها، رأيت كيف تؤثّر الحياة بلا عمل على الأشخاص، فتجعلهم يذبلون. وهو توفي بسبب روتين حياته الممل". يضيف أنّ "الخيارات المتوفّرة أمام المتقاعدين ليست في صلب تخصصاتهم، فقيادة سيارة أجرة المطار، وهي الوظيفة الأكثر شهرة بين هؤلاء بعد تقاعدهم، لم تكن وظيفة مناسبة لرجل متعلّم مثل والدي".
وفي محاولة لاستيعاب المتقاعدين، كانت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قد أعلنت قبل أكثر من عام، في إبريل/ نيسان 2018، فتح المجال أمام هؤلاء للعمل كأئمّة ومؤذّنين في مساجد البلاد، مع إعطائهم الأولوية في التوظيف على غيرهم، وهو عامل مساعد على سياسة "الإحلال" التي تحاول الحكومة الكويتية تطبيقها عبر إنهاء عقود عمل الوافدين وعدم التجديد لهم في وظائف عدّة واستبدالهم بمواطنين كويتيين لحلّ المشكلة الديمغرافية في البلاد. من جهة أخرى، قدّم النائب أحمد نبيل الفضل اقتراحاً برلمانياً يقضي بإلزام شركات الأمن والسلامة التي تتعاقد معها الشركات الحكومية لحماية المنشآت المدنية، بتوظيف العسكريين المتقاعدين بدلاً من رجال الأمن الوافدين، غير أنّ الشركات تحاول تجنّب مثل تلك المقترحات خوفاً من دفعها رواتب أكبر للمتقاعدين بالمقارنة بتلك الخاصة بالوافدين.