عامر ذياب التميمي- البيت الخليجي-
أثارت جائحة كورونا عديد القضايا الأساسية التي تواجه دول الخليج سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ومن أهمّها مسألة التركيبة السكانية المزمنة، والتي تعاني منها هذه البلدان منذ بداية عصر النفط منتصف القرن العشرين. وتمثل التركيبة السكانية أهمّ التشوهات الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان، حيث تفوق نسبة الوافدين أو المقيمين من غير المواطنين أكثر من 50% من إجمالي السكان في بلدان المنطقة ما عدا المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان.
حدث ذلك نظراً للإعتماد الهيكلي على العمالة الوافدة من قبل القطاعات الاقتصادية، فأصبح من الصعب تشغيل معظم الأنشطة دونها والتي تتراوح في إمكانيّاتها المهنيّة من عمالة هامشية غير مؤهلة تعليميًا إلى مستويات مهنية راقية تشمل أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين المختصين، ناهيك عن الطواقم الفنية العاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وبفعل جائحة كورونا تبين أن هناك أعدداً كبيرة من الوافدين قد تكون فائضة عن الحاجة أو أنهم باتوا عبئاً على اقتصادات بلدان المنطقة.
شهدت هذه البلدان خلال عام 2020 وشهور العام الجاري 2021 هجرة عكسية للعمالة الوافدة، وأظهرت الإحصاءات هجرة نسبٍ هامّة من إجمالي السكان، إذ تشير تقديرات “ستاندرد اند بورز غلوبال” للتصنيف الإئتماني أن عدد السكان في دول مجلس التعاون إنخفض بنسبة 4% في عام 2020 بعد أن كان يُقدّر بنحو 57,6 مليون نسمة في نهاية عام 2019. وإذا قررت دول الخليج أن تتبع سياسات الحدّ من الوافدين ورفع نسبة مشاركة المواطنين في سوق العمل فإن تراجع أعداد الوافدين قد يصبح هيكلياً. في الإمارات مثلًا، بينت إحصاءات بأنّ عدد السكان إنخفض إلى حوالي 9,3 مليون نسمة بنهاية عام 2020 متراجعًا بنسبة 2,3% في عام 2019. كما أن قطر سجلت إنخفاضاً بنسبة 4,4% بين عاميّ 2020 و2021. أما الكويت فشهدت إنخفاضاً سكّانيًا قدره 470 ألف نسمة خلال عام 2020، وكذلك إنخفض عدد سكان سلطنة عمان بنسبة 12%، في حين تراجع عدد سكان السعودية بنسبة 2,8%.
دون شك، توقف الأعمال وإجراءات الحجر ومنع عودة غير المواطنين إلى بلدان الخليج خلال الأزمة الصحية الراهنة عزّز من إنخفاض أعداد الوافدين، فالعديد منهم لم يتمكنوا من الرجوع أو من تجديد إقاماتهم.
أمام هذا الوضع، بدأت الشركات ومؤسّسات الأعمال بالشكوى من تعطل أعمالها نتيجة تراجع أعداد العاملين من الوافدين الذين تعتمد عليهم لإنجاز المهام الأساسية. كما شكت شركات التشييد والبناء من مصاعب تواجهها في تنفيذ المشاريع الحكومية والخاصة لغياب الأعداد الكافية من العمالة الوافدة. من هنا بدا أن رحيل العمالة الوافدة يزيد من مصاعب أصحاب الأعمال رغم أنه يساعد على إعادة هيكلة التركيبة السكانية. على سبيل المثال، حاولت الكويت تنفيذ قرار بعدم تجديد إقامة العاملين غير الكويتيين الذين تجاوزوا الستين من أعمارهم ولم يحصلوا على شهادات تعليمية أعلى من الثانوية العامة، وباشرت بالفعل تنفيذ هذا القرار منذ بداية العام الجاري بَيْدَ أن غرفة تجارة وصناعة الكويت والعديد من المؤسّسات الإقتصادية عارضت بشدة القرار باعتبار أن هؤلاء يمثلون فئة مهمة من العمالة الوافدة وقد كسبوا خبرات مهمة في مجالاتهم المهنية، وأسّسوا أعمالاً صغيرة مهمة، وبذلوا الأموال في مشاريع عديدة، كما أنّ أنشطة عديدة في قطاع الخدمات وقطاع التّشييد والبناء والصناعات التحويلية والمؤسسات العقارية والرعاية الصحية تعتمد على جهودهم. يضاف إلى ذلك أن عدداً كبيراً من هؤلاء العاملين ربما قدموا إلى الكويت في مطلع خمسينات القرن، وبالتالي فأكثر من خمسين بالمئة منهم أمضوا في الكويت ما لا يقل عن ثلاثين عاماً.
إنطلاقًا مما ذكرناه نطرح هذه الإشكالية: كيف يمكن لدول الخليج أن تُوفّق بين أهداف تعديل التركيبة السكانية ومتطلبات سوق العمل ضمن المحددات الموضوعية التي تواجهها؟
لن تتمكن دول الخليج خلال سنوات قليلة أي خمس أو عشر سنوات من بلوغ أهدافها، ولن تساعد البرامج التعليمية من توفير عمالة وطنية مناسبة لمختلف الأنشطة الاقتصادية نظراً لغياب التعليم المهني الجاد، كما أن منظومة القيم التي تكرّست بفعل السياسات المالية الريعية، عززت عزوف المواطنين عن شغل العديد من الوظائف والمهن في عدد من بلدان الخليج. يضاف إلى ما سبق، أنّ النّمو السكاني والذي لا يزال يعدّ مرتفعا قياساً بمعدل النمو السكاني العالمي، يعزز الحاجة للعمالة الوافدة في قطاع الخدمات والقطاع المنزلي.
لكن هل يعني ذلك أن تستسلم دول المنطقة لهذه الأوضاع وأن تستمر في السياسات الراهنة التي تجعل من المواطنين أقلّية لا أثر لهم في العمل والإنتاج في بلدانهم؟
هناك أهمية للتكيف الديمغرافي وترشيد النشاط الإقتصادي وتعديل السلوكيات الإستهلاكية بما يؤدي إلى تخفيض الطلب على العمالة الوافدة. ارتفاع تكلفة العمالة في الأمد القصير لابد أن يكون مقبولاً وأن يتم إستيعابه، قبالة ذلك، يتعيّن تطوير الإستخدامات التقنية الحديثة والذكية لتخفيف الإعتماد المباشر على العمالة. وكما هو معلوم فالعديد من الوظائف والمهن لم تعد ذات أهمية خلال السنوات القليلة الماضية في العديد من البلدان الصناعية المتقدمة نتيجة للتطورات التقنية المتسارعة.
لم تعد الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في دول الخليج متشابهة، فسلطنة عمان والبحرين من البلدان محدودة الدخل والتي لا تحصل على إيرادات نفطية كافية لمواجهة إلتزامات الإنفاق، كما أن مستويات المعيشة فيهما تختلف عن مستويات المعيشة في الإمارات وقطر والكويت. أيضا، السعودية بدأت منذ زمن معقول بإصلاح سوق العمل وترشيد التوظيف بما رفع من نسبة مساهمة العمالة الوطنية في أنشطة القطاع الخاص، وهي من البلدان الخليجية التي تولي أهمية لإصلاح النظام التعليمي.
هذه البلدان الثلاثة ستُوفّق في برامج التعديل السكاني لصالح المواطنين على مدى زمني مقبول، لكن تبقى الإمارات وقطر من البلدان التي تفتقر لقاعدة سكانية وطنية وافية ولا بد من الانتظار طويلاً حتى ولو أدت الأزمة الصحية الراهنة لرحيل أعداد كبيرة من العمالة الوافدة. تشهد دولة الإمارات توسعًا كبيرًا في أنشطة القطاع الخاص والإستخدامات المتسارعة للتقنيات الحديثة التي تتطلب سياسات حكومية جادة لتعزيز دور العمالة الوطنية في البلاد، لكن يظلّ دور الوافدين مهمًا في تمكين الأعمال في مختلف القطاعات لتحقيق الدخل المناسب للإستمرار في أنشطتها. فنسبة المواطنين ما تزال متدنية في دولة الإمارات وهي لا تزيد عن عشرة بالمئة من إجمالي السكان. وإذا ما قررت الدولة أن ترفع نسبة المواطنين في المجتمع السكاني الشامل، لابد من إبتداع سياسات جديدة تعالج الإنخفاض في الاستهلاك المتوقع وتراجع أعداد العاملين. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على قطر التي تعاني من إنخفاض عدد المواطنين في المجتمع السكاني حيث لا يزيد 15%.
يجب الإقرار بأن تعديل التركيبة السكانية في دول الخليج لن يكون سهلًا ولن تفيد القرارات السياسية أو حتى التشريعات، إذا لم تأخذ بالحسبان الحقائق الاقتصادية الصادمة والمحددات الديمغرافية الراهنة. هناك أهمية لابتداع سياسات ذكية، وتطبيقات متدرجة، والتفاعل مع المتغيرات التقنية في العالم وإصلاح منظومة القيم الاجتماعية بما يقود إلى إصلاحات واقعية للتركيبة السكانية.
بتقديري المتواضع فالمتغيرات المتوقعة في قطاع الطاقة وتأثيراتها على اقتصاديات النفط قد تساهم في تبني دول المنطقة لسياسات سكانية مختلفة خلال السنوات القادمة، ما يعني بداية إصلاح للهياكل الاقتصادية التي بنيت على برامج وسياسات الريع. ورغم كونها تحديات سياسية واجتماعية، إلا أنه لا مفر من مواجهتها بموجب آليات مناسبة وواقعية، وتحديد برامج زمنية لتنفيذها دون تعطيل النشاط الإقتصادي.