ميس الفارسي- البيت الخليجي-
تشهد مجتمعات دول الخليج مؤخراً صعوداً بارزاً للحركات والخطابات النسوية، لتصبح المرأة في الخليج حديث الرأي العام، وأكثر ما يختلف عليه الجمهور بين كل فترة وأخرى. عوامل مثل الانفتاح على الخارج وتوفر منصات التواصل الاجتماعي قد تكون لعبت دوراً محفزاً لظهور هذه التوجهات على السطح بعد سنوات من الخطاب الأحادي في الإعلام الرسمي.
ورغم تحسن أوضاع المرأة في بعض دول الخليج كضمان حقها في المشاركة السياسية وزيادة حضورها في الحياة العامة ونيلها بعض المكتسبات الاقتصادية، إلا أن التطلعات أصبحت أكبر بكثير، كما أن دعاوى المساواة في الحقوق والواجبات باتت سمة ظاهرة بين الأجيال الجديدة.
ومع صعود الخطابات النسوية، تشكلت ردود فعل محافظة تكيل التهم والادعاءات وتصور هذه المطالبات على أنها غربية لا تتوافق مع الثقافة العربية الإسلامية، بل وأنها مرتبطة بأجندات أجنبية.
يجدر الالتفات إلى أن الغرب يعيش حالة من الشعور بالفوقية ويتوهم أن نماذجه الثقافية والاجتماعية والقيمية هي ما يجب أن تسود، وقد يصل بهم الحال حد اختزال حقوق الإنسان في خلاصة التجربة الغربية متجاهلين كل المجتمعات والثقافات الأخرى. ورغم ذلك، لا ينبغي لهذا الأمر أن يلغي حقيقة وجود مطالب مستحقة للنساء في الخليج. لا تزال المرأة الخليجية تعاني من هيمنة السلطات المختلفة (سياسية = الحكومة، اجتماعية = القبيلة، دينية = الشيوخ التقليديون) التي غالبا يسود فيها ذكور منحازون ضد المرأة في قراراتهم وتصوراتهم لشكل الدولة ودور المرأة في المجتمع.
لا تولد الحركات الحقوقية صدفة أو بلا سبب، بل تتكأ على مبررات ودوافع. دائماً ما يكون هناك سياق من الظروف والحيثيات التي تدفع بهذه الحركات للصعود. وإن كان التاريخ يخبرنا بشيء، فهو أن الحركات التي تحقق مكتسبات غالبا تكون قادرة على خلق نوع من الإجماع السياسي والقبول من شرائح مختلفة في المجتمع، وأن الحركات التي تستخدم خطابات منفصلة عن السياق الثقافي والمرجعيات المحلية تجد نفسها في عزلة وغير قادرة على التغيير. ولذلك، يحتاج الحراك النسوي لتيار جديد يتبنى رؤية ذات مرجعية إسلامية لا أن يعيش حالة من القطيعة مع الموروث. هذا الخطاب يجب أن يكون في نفس الوقت قادراً على الاستفادة من تراكم التجارب العالمية والأخذ بالمفيد منها.
تستند التيارات المحافظة في الخليج على حزمة من العادات والتقاليد التي أُلبست لباس الدين لتحظى بشعبية وغطاء شرعي. وهنا لابد من الاشارة إلى أن الحراك النسوي – بصيغته الحديثة – وإن كان قد انطلق من الغرب إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنه لم يكن موجودا في المجتمعات الأخرى عبر التاريخ. نجد هذا التدافع حتى في عهد الرسول (ص) ومجتمع الجزيرة العربية في ذلك الوقت. الفارق هو أن مجتمعاتنا لم تتوقف في مكانها فحسب، بل تراجعت وانقلبت على أعقابها في مسائل حقوق المرأة وحضورها في الحياة العامة. وعليه، قد يكون من المفيد تشكل تيارات نسوية قادرة على المحاججة والإقناع وحشد الرأي العام لصالحها استناداً على المرجعيات التي يقوم عليها المجتمع.
في هذا السياق، تقول سارة غامبل في كتابها Feminism and Post-Feminism “تأثير النسوية سواء كانت حركة أم نظرية أم فلسفة امتد إلى ما وراء العالم الغربي ليصل إلى مختلف أرجاء العالم، حيث حاول البعض إخراجها بصورة جديدة تتلاءم مع خصوصيات المجتمعات والثقافات المستقبلة لها”. بمعنى آخر، إن كانت النسوية غربية المنشأ فهذا لا يعني بالضرورة، أن تكون في الخليج مستنسخة من التجربة الغربية، بل من الممكن أن تنبثق من وضع المرأة في الخليج وما تواجهه فعلياً من تمييز جندري من قبل السلطة أو المجتمع.
الحراك النسوي: من الداخل للداخل
يقول مارتن هايدجر “التحول لا يمكن أن يحدث بتبني تجارب حصلت في الشرق… إن الفكر لا يتغير إلا من فكر له نفس المصدر، وله نفس الهدف”. صناعة الحجة المقنعة تشترط إعطاء أهمية وازنة للسياق الديني والثقافي للمجتمع الذي ولدت فيه. التمسك بأدوات ومفاهيم وخطابات “النسوية” بنسختها الغربية قد يبقي المرأة في بعض دول الخليج رهينة صدام مستمر مع المجتمع المحافظ ما قد يعرضها للمزيد من الاقصاء والتهميش. وعليه، سيتحول الصراع من محاولة تحسين وضع المرأة إلى حالة متكررة من التصدي لردات الفعل الصادرة من قبل المجتمع والسلطة، فيغدو الأمر كما لو أنه حرب بين النساء اللائي يعرّفن أنفسهن كنسويات في مواجهة حراس الموروث، بغية بناء منظومة اجتماعية جديدة تصوّر الدين كقيد ينبغي التخلص منه لتحقيق المساواة.
نجح التيار المحافظ، إلى حد ما، في بناء تصور ذهني لدى العامة يقدم الحركة النسوية وكأنها تدعو لإفساد النساء وتغريبهنّ، بل ومرادفاً للغزو الفكري الغربي واستهداف الدين والمعتقدات. وهذا ما يدفع الكثير من الأشخاص عند مواجهة الفكر النسوي بالوقوع في مغالطة المنحدر الزلق، وهي مغالطة منطقية تستغل العاطفة للتأثير في عوام الناس وايهامهم بأن النسوية ستؤدي بالضرورة لعواقب كارثية، فهي في البدء -بالنسبة لهم- تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق، ومن ثم تتجه للتخلص من العادات وبعدها تهز الثوابت الدينية، وهو ما يؤدي إلى حدوث ردات فعل مناوئة للحراك النسوي يصل في بعض الأحايين إلى الدعوة لمحاسبة النسويات بدعوى التمرد والانحراف والتطرف.
قد لا يكون خيار الصدام أو القطيعة مفيداً للمرأة في الخليج بقدر ما يجب عليها التركيز على خيارات الإصلاح من الداخل تدريجياً وكسب مراكز القوى لصالح الحراك النسوي وحقوق المرأة.
النسوية والإسلام
قد يكون وجود تيارات واشتغلات نسوية إسلامية مفيداً؛ على أن تعمل هذه التيارات على مواءمة الأفكار التي تطرحها مع السياق الثقافي والإسلامي في مجتمعاتنا؛ ما قد يجعلها أكثر قدرة على التأثير وضمان القبول والمساندة المجتمعية. ليس المقصود من النسوية الإسلامية التيارات التقليدية السائدة التي تنظر للمرأة بنظرة قاصرة وترفض نقد التراث؛ بل هي نسوية إسلامية تدعو للتجديد وإعادة قراءة التراث وتدفع النساء للاجتهاد في التفسير وتأويل النصوص المقدسة بعيداً عن التحيز الجندري. ومن أهم المثقفات العربيات اللاتي برزت أسماؤهن في هذا السياق المغربية فاطمة المرنيسي التي انطلقت من مرجعية إسلامية ودأبت على دراسة وتنقيب التاريخ الإسلامي ومراجعة الأحاديث النبوية التي تناولت المرأة.
حركت المرنيسي المياه الراكدة وألهمت العديد من الباحثين والباحثات المهتمين بهذه القضية وجاءت على إثرها دعوات لإعادة قراءة النصوص الدينية وتفسيرها باعتبار أن تأويلها وفهمها تم من منطلق ذكوري بمعزل عن مساهمة النساء. ولذا، ما نحتاجه هو تقديم قراءة نسائية للنصوص الدينية تستند على دراسة متعمقة في اللغة والتاريخ وعلم الإنسان والاجتهاد في التفسير. “لا كنهوتية في الإسلام” وليس من حق أي فئة أو عرق أو جنس احتكار الحق في تفسير النص الديني، نعم لابد من التعمق والتخصص في الدراسات الدينية ولكن هذا لا يلغي حق النساء في أن يكونوا جزءً من ذلك.
تُخييّر المرأة في الخليج بين أمرين: “أن تكون نسوية أو مسلمة” هي مغالطة يجب تجاوزها.
نحن أمام تصورين حادين، الأول يرتبط ببعض التيارات النسوية التي ترى أن المشكلة في الدين نفسه لا في تفسيره، وأن النسوية والإسلام لا يمكن أن يجتمعان. بالطبع، يمكن فهم هذا الموقف الحاد في نقد الموروث والدين باعتبار أن الأديان، قديماً وحديثاً، استخدمت كأداة لتكريس الاضطهاد ضد المرأة. التصور الثاني يرتبط ببعض التيارات المحافظة والسلفية التي ترى أن النسوية تناقض تعاليم الإسلام؛ وأنه لا يمكن أن تكون المرأة مسلمة ونسوية معاً، بل وتستنكر دعوة النسوية الاسلامية لإعادة قراءة النصوص المقدسة لأنها تعتبره تشكيك وعبث في الدين.
تواجه المرأة في الخليج هذا الاستقطاب الحاد بين خيار الحفاظ على الهوية الإسلامية من جهة، والانسلاخ التام عن الدين من جهة أخرى. ولهذا، جاءت النسوية الاسلامية لتقدم طرحاً مغايرا يمكّن النساء من الحفاظ على هويتهن الاسلامية والعقائدية مع رفض الظلم والتمييز الواقع عليهن. تقول الدكتورة أميمة أبو بكر “ليس بالضرورة أن نرفض الدين والإيمان لنكون نسويات، أو أن نرفض المنظور النسوي لنكون مؤمنات ملتزمات”. لا تحاول هذه المقالة الدفع بتوجه نسوي واحد، إذ أن تنوع الأفكار والمرجعيات الثقافية للحركات النسوية مفيد لتقدم الحراك النسوي، وينبغي للحراك النسوي أن لا يعتمد على ثقافة الإقصاء بل أن يتعاون مع الإيديولوجيات النسوية المختلفة في سبيل تحقيق الهدف الأساسي لتصويب وضع المرأة مع محاولة خلق حالة من الإجماع أو الوفاق حول الحقوق الأساسية للمرأة لتحقيق مكتسبات أكثر بخسائر أقل.
على الحركات والخطابات المدافعة عن المرأة في الخليج أن تتجاوز موقع ردات الفعل إلى منطق الحركات الحقوقية الواقعية القادرة على إحداث التغيير.