د. إحسان بوحليقة- اليوم السعودية-
جرائم الإرهاب من قتل للآمنين هي جرائم بحق الوطنية، لا بُعد شخصيا لها، بل تهدف -في الأساس إلى الإضرار بالوطن برمته، عبر التعرض لأمنه وأمانه، وبالتالي النيل من استقراره.
وعلى الرغم من ذلك، ومن إدانة مجلس الوزراء الموقر للهجوم على مسجد الرضا بالأحساء، وقدوم سمو ولي العهد وسمو أمير المنطقة الشرقية لتقديم واجب العزاء لأهالي الشهداء والاطمئنان على صحة المصابين، إلا أن هناك من يسعى ليُفسر ويبرر الأسباب والمسببات، وأقول: إن الوطن سياجٌ لكل أهلهِ، أمنهم مِن أمنه. وأضيف إن وطننا مستهدف لأكثر من سببٍ ودافع، فمؤلم حقاً أن يستشهد أبناءٌ له على يدِ أبناءٍ له. هذا سلوك لا مبرر له، بل مجرد السعي للتبرير يعني تَلمس العذر لقتل النفس المعصومة وهتك السيادة الوطنية. هذه جرائم لا يمكن أن تُكَيف إلا أنها ضد الوطن طولاً وعرضاً وضد مكوناته كافة.
من له شكاية في هذه البلاد فليحرر شكوى أو يسجل قضية، أما أن ينال ممن يريد كيفما يقرر ويريد فذلك يعيدنا لمنطق الغاب وليس لمرتكزٍ يمكن تبريره شرعاً وقانوناً.
فكما أن هناك أوسمة وجوائز تُمنح لمن يقدم خدمات جليلة للوطن ولأهله في مجالات الطب والهندسة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والتكافل الاجتماعي والبذل والعطاء، يجب إصدار صكوك إدانة وطنية لكل من يثبت قيامه بجرائم وطنية، فكما يحتفي الوطن بالمحسن كذلك لا بد من التشهير بالمسيء، فالحرص على وطننا واجبنا جميعاً، واجب كل مواطن سعودي ومواطنة سعودية، وواجب كل وافد على وطننا الغالي. واجب كل فرد منا ألا يحمل كرهاً ليقتل ويفتك، وواجب كل فرد منا ألا يكره وإن كره ألا يحول كراهيته تلك لقتل وأذى.
ولن يذهب الإرهاب بمجرد أن نُصغرّ تأثيره بكلماتنا، فتلك أمانٍ. بل يصغر ويتلاشى بأن يقوم كل واحد منا بواجبه، بأن يمتنع عن أي ممارسة فيها كراهية لأخيه في الوطن أو في الإنسانية. أن تتخذ موقفاً فكرياً أمر، أما أن يتحول موقفك الفكري إلى فعل لزرع الكراهية فهذا أمر آخر، وأن يتحول إلى فعلِ قتل وإلحاق أذى فذلك تجاوز على كل شيء.
في فاجعة الهجوم على مسجد الرضا بالأحساء، أقدم مواطن يافع على قتل مواطنين. مَن برمجه للقيام بالعمل الشنيع؟ مَن أحل له التعدي على كرامة الانسان والمكان؟ هذه ليست أسئلة «فذلكة»، بل لكي ندرك جميعاً أن ثمة منظومة، فمَنّ قام بالقتل في المسجد -على شناعة فعلهِ- هو الطرف الأخير فيها، وأن لتلك المنظومة حلقات متصلة تتتالى لتصل في نهاية المطاف إلى الطرف الأخير.
الأمر أن الإرهاب يستهدف الوطن، من خلال استهداف مكوناته. فللوطن كرامة واحدة لا تتجزأ، فشعبهُ واحد، وأرضه واحدة، وتطلعاته للازدهار والنمو والتنمية والاستقرار واحدة. والوطن هو لكل مواطن حصنٌ منيعٌ والبلد الأعز، لذلك فمن واجب كل مواطن أن ينأى بنفسه عن أي نشاط سيؤدي لتعزيز منظومة الإرهاب أو مساندتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، خوفاً وحرصاً وحفاظاً على قوة وطنه وتماسك مكوناته كالبنيان المرصوص.
للوطن حق كبير على كل مواطن، بأن يرعى حرمته، ويسعى لمصلحته، بأن يقدم مصلحة الوطن العامة الواسعة على مصلحة الفرد الخاصة الضيقة. وإلا إن كان كل منا يريد أن يفعل ما يحلو له أو ما يراه صحيحاً فذلك سيؤدي أن نتجاذب الوطن في اتجاهات متضادة ستؤدي -لا محالة- لتبديد موارده وتناحر أهله -لا قدر الله- فنتفرق وتذهب ريحنا. وليس في هذا أي تنظير، فالأمثلة شاخصة أمامنا، والعاقل من اتعظ بغيره، انظروا إلى بلدان شقيقة مجاورة كيف أودت بها الفرقة والتشاحن والتباغض والتقاتل، فجعلتها بعد غناها فقيرة، وبعد أمنها وعزتها مستباحة.
وهذا يؤلم كل مسلم وكل عربي وكل إنسان أن ينتشر الدمار بعد البناء، فأصعب الخراب هو أن يخرب الناس بيوتهم بأيديهم. ونحن في وطننا الغالي عايشنا في الماضي الفقر المدقع وانعدام الأمن دهوراً، ولذا علينا أن نثمن ونحرص أكثر من سوانا، فنحن حديثو عهد بالفرقة والتغازي والسلب والنهب والفقر، فمن حولنا بلدان عاصرت النمو والمدنية قروناً متصلة، فلم يعصمها ذلك من التفتت بعد أن لصق بها التكاره، وولجت في عقول أبنائها الفرقة، ولعبت بهم الأحقاد.. ففرقت جمعهم، ودب القتل فيما بينهم، فأصبحوا نهباً لكل طامع ومغنماً لكل مخادع.
وهكذا، فالكرامة هي للوطن والتضحية هي من أجل الحفاظ عليه حصنا حصينا وحياضا عصيا على الأعداء، ورحمة وجُنة لمواطنيه، تحفظ فيه كرامتهم وحرماتهم. وبالقطع، لا ينسى أحدٌ شهداءه، فالألم لن يبرح القلب، لكن يبقى للوطن حق لا يستطيع إدراكه وتقدير معانيه إلا من التصق هياماً بالأرض، وتعايش احتراماً لوطنه ولأهله، ولن يتساوى القاتل والمقتول في يومٍ لا فرار لأحدٍ منه.