نجيب يماني- عكاظ السعودية-
لا يمكن لأيّ «عاقل» أن ينجو من أحابيل الشكوك والظنون والهواجس المتقاطعة، وهو يطالع مطالبة منتسبين لـ«مجلس الشورى» بعودة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لضبط الشارع العام، بزعمهم.. ومهما أحسنّا الظن في مثل هذه المطالبة «المريبة»، إلا أن حسن الظن هذا يهزمه الواقع، وينسفه ما سبق، ويذهب به ما سيأتي..
أما على مستوى الواقع، فالحقيقة تشير بكل وضوح إلى أن هذه الهيئة لم تُلغَ أصلاً، وباقية على وضعها الاعتباري بذات الأسس والأهداف التي من أجلها أنشئت بداية، وهي من النصاعة ونبل الهدف ما يجعلها قيمة مضافة في المجتمع، ولهذا فإن طرحها على مستوى النقاش في «مجلس الشورى»، يحمل أحد أمرين؛ إما أن من تولى ذلك مفتقر لأبسط المعلومات عن الهيئة، وإما أنه يسعى إلى إنتاج الأزمة التي خلفها سلوك بعض منسوبي هذه الهيئة في زمن، نسأل الله أن لا يرده إلى مجتمعنا مرة أخرى..
فأضابير الذاكرة تمتلئ بشواهد ومواقف ومرويات ومسرودات عن السلوكيات الخاطئة التي مارسها بعض منسوبي الهيئة، كانت كفيلة بجعلها جسماً غريباً في المجتمع، و«رقيباً» مارس هذه الشعيرة العظيمة بكل ما يخالفها شرعاً وعرفاً، وعلى من ينكر علينا هذا أن يعود إلى الوراء، ويلقي نظرة عجلى على أسس الشريعة الغراء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلن يجد المحددات، في تحقيق ذلك، خارجة عن: الحسنى، واللين، والإيلاف، والرفق، والعطف، والدعاء، والرحمة، والستر، والتجاوز، والإغضاء.. إلى آخر هذه القائمة الوضيئة من محاسن الأخلاق، ومستألفات القلوب القواسي، ناهيك عن الرقيقة الأليفة.. هذا أمر يعرفه الجميع، ويستدلون عليه بعشرات الشواهد من القرآن الكريم والسنة الشريفة الغراء، وهو عين ما افتقدناه من بعض -وأخشى قول «الكثير»- من منسوبي الهيئة، وبوسعك أن تنظر إلى كل الصفات المليحة التي أشرت إليها -من «الحسنى» إلى «الإغضاء»- وستجد أن المضاد اللفظي والمعكوس المعنوي لها كان ماثلاً وحاضراً في مسلك «أسود الهيئة»، متحركين في مساحة لا تملكها حتى الأجهزة النظامية، المنوط به حفظ الأمن، وتوفير السلامة للمواطنين، فقد كان بوسع فرد واحد من الهيئة أن يحوّل مناسبة من المناسبات -خاصة أو عامة لا فرق- إلى حالة من الفوضى العارمة، مدعوماً ومسلحاً بالسلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، بشكل خفي ومتواطئ عليه، فهو الذي يقرر نوعية الفعل المرتكب، ويصدر حكمه الآني، ويقوم بتنفيذه على الفور وآن، ولا رادع له عن هذا المسلك الشاذ، بل تحولت بعض مكاتب الهيئة إلى محابس ومنصات قضائية ومسارح لتنفيذ الأحكام، بما خلق وضعاً موازياً لأجهزة الدولة الرسمية، كل هذا كان حاضراً ومشاهداً ومثبتاً في ذاكرة التاريخ، وأكثر ما كان يثير العجب أنه حالة ثبوت الجرم على فرد من منسوبي الهيئة، فإن أقصى عقوبة تلحق به؛ «النقل الإداري» من جهة إلى أخرى، حتى لو كان في ما قام به ذهاب نفس، وموت بريء..!
تلك أيام خلت، ما كان على «الشورى» أن يسمح، مجرد سماح، بفتح هذا الملف المؤلم، فقيادتنا في رشد توجهها، وحكمة إدراكها للواقع، ونافذ بصيرتها للمستقبل تدرك جيداً أن انحراف بعض منسوبي الهيئة عن أهداف هذه المؤسسة العظيمة، موجب لتصحيح مسارها، وردها إلى الجادة، على نحو ما هي عليه اليوم؛ جسد متناغم في المجتمع، غايته رد الغافلين بالحسنى، وإيقاظ القلوب النافرات باللين، ليس لها من الصلاحيات في تحقيق ذلك إلا الدعوة ما وسعتها الوسيلة، والإرشاد بقدر ما تتحقق لها الغايات السامية.. وهي غاية عظيمة، لا سبيل إلى تحقيقها لو لم يكن المنتسبون إلى الهيئة أنفسهم على علم وتقوى وورع، بغير مخادعة من جلباب قصير أو لحية مرسلة أو سواك في الجيب، نريد لعضو الهيئة الجديد أن يفهم جيداً معنى «إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر»، وأن يعي جيداً مسائل الخلاف المعتبر بين المسلمين قديماً وحديثاً، وأن قناعاته وإيمانياته الشخصية لا تخوّل له حمل الناس عليها بقوة الجبر والإكراه، بخاصة وأننا قبلة المسلمين من كل أصقاع الدنيا، وبيننا وبينهم مشتركات كبيرة، واختلافات هي من باب الرحمة، فلا سبيل إلى إنزالهم عن قناعاتهم لمجرد أننا نرى خلافها، ولن يدرك هذه المسألة إلا عالم ورع، وفقيه بارع عامل بعلمه، وهو وحده من يستحق مناط التكليف بـ«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ومن ترف القول بأنه ليس كل مسلم يحق له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طالما أنه لا يعرف كل حدود المعروف، ولا يحيط بكل جوانب المنكر، فثمة «منكر» يحدثنا به بعض العلماء هنا، هو من قبيل «الفضائل» عند مسلمين كثر في أصقاع العالم، بما يشير إلى مواطن خلاف في النظر، محلها المدارسة والنظر، وليس النهي والأمر.
غاية القول، إننا نستقبل عهداً، لا أقول جديداً، بل أقول إنه يعود بنا إلى فطرتنا السوية، ومرتكزات مجتمعنا في سياقه العادي، بلا ادعاء للفضيلة والطهرانية المطلقة، ولا استنزال إلى وهدة الانفلات والفوضى، مجتمع ككل المجتمعات، يتعاطى من الأشياء بلا ريبة أو توجس، يعبد خالقه بيقين ومحبة ورجاء، يخطئ، كما هي طبيعة البشر، ويغسل قلبه من نهر الغفران والتوبة المنسال على باب قلبه على الدوام، يطيع ربه وقيادته رجاء المثوبة، ويعمر الأرض عملاً مثمراً، ويحلم بوطن تتعالى رايته في ذرى الساريات السوامق، وهو لها؛ طالما ظلت في مقدمته «قيادة» واعية، تضبط إيقاع «التحول» وتفتح نافذة المستقبل بـ«الرؤية».