جاسر الدخيل- خاص راصد الخليج
ما ذكره المدعو محمد آل الشيخ ليس سوى اظهار المخفي ، وتبيان ما كان مضمرا وان كان يُعمل به منذ زمن ليس بالقصير، ويمثل الاستراتيجية الحقيقة للعائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية. ربما اختلفت الاولويات باختلاف المراحل لكن جوهر القضية بقي واحداً.
فتحت عنوان «العدو الفارسي أولاً والصهيوني ثانياً» كتب محمد آل الشيخ مقالة في صحيفة «الجزيرة» قال فيها ما نصه: « يجب أن نضع هذه (الحقيقة) مباشرة ودون مجاملة لأحد، في وجه كل من يبتزنا، بحكاية أن إسرائيل هي عدو العرب الأول، وإيران تدعمنا في هذه القضية. ربما هذا صحيح بالنسبة لعرب الشمال وكذلك مصر لأن إسرائيل تهددها وتهدد أمنها واستقرارها؛ أما بالنسبة للمملكة ودول الخليج، فإيران وليست إسرائيل تأتي في مقدمة الأعداء والأخطار المحدقة بنا والتي تواجهنا، وتهددنا، متخذة من قضية فلسطين وتحريرها ذريعة، للنفاذ إلى العمق العربي، وتفتيت اللحمة العربية، وتجييرها لمصلحة مشروعها التوسعي».
وكلام آل الشيخ هو نصف الحقيقة لا أكثر، هذا النصف هو النصف الثاني من المقولة أي ان اسرائيل ثانيا، ولطالما كانت اسرائيل كذلك بالنسبة لآل سعود. والتاريخ يقول ان المملكة كانت دائما تبحث عن عدو أول لتبقى اسرائيل ثانيا. كانت المملكة تشغل نفسها بقبائل اليمن والحدود العراقية ونشر الوهابية لانها تعتبر ان «مظاهر الشرك» في العالم الاسلامي هي الاولى والخطر الاكبر. فاسست المدارس الدينية، ورسخت افكار ابن تيمية، بل أوجدت هالة مقدسة عليه فاقت اي هالة لاي من العلماء، فالشيخ ابن تيمية هو «شيخ الاسلام» فلا قول فوق قوله، ولا راد لحكمه. ثم بعد ذلك اتخذت من الصوفية عدوا لها له الاولوية على سائر الاعداء. ثم جاء بعد ذلك دور الناصرية وكل شعارات الوحدة العربية. وبخط مواز كان العدو الاول هو الشيوعية، فانها عقيدة «كفر والحاد»، فلا عدو يعلو هذا العدو، ولا أولوية مقدمة عليه. كان العدو «الشيوعي» له الاولوية رغم انتصار الثورة في ايران، لكن الثورة كانت مشغولة بالحرب التي شنها عليها الرئيس العراقي صدام حسين، اما الشيوعية والاتحاد السوفياتي فخطره لا يزال ماثلا، على ان العداوة والاولوية لم تحدد يوما من الايام سعوديا، بل دائما كان يحدد ويشخص من قبل الادارات الاميركية المتعاقبة.
وما أن زال «الخطر» الشيوعي حتى أوجدت المملكة لنفسها عدوا جديدا اعطته الاولوية. انه ايران «المجوسية» و«الصفوية» و«الرافضية» و«دولة الملالي» و«نظام الولي السفيه» وغيرها من الفاظ وتسميات جادت بها قريحة المملكة السعودية وكتابها الأفّاكون وصنّاع الكذب والاساطير. فإيران كانت صفوية في عهد الشاه، وهي ليست كذلك الآن، فاذا كانت صفة «الصفوية» تبرر العدواة فلماذا لم تكن عدوة في حكم الشاه «الصفوي» بامتياز؟؟ واذا كانت المجوسية هي دليل العداوة، فلماذا لم تكن مجوسية قبل انتصار ثورتها، هذا ما لم نقل لماذا لم تصبح مجوسية الا بعد انتشار التشيع فيها، فان المجوس سابقون على التشيع في ايران؟.
وعلى أي حال فهل هذا يعني انه لو زال «الخطر الايراني» ستصبح اسرائيل العدو الاول؟ بالطبع لا فان الذي اوجد عدوا بعد عدو منذ تأسيس الكيان الغاصب، لن يعجز عن ايجاد عدو جديد.
الا أن الجدير بالملاحظة ان ترتيب الاعداء سعوديا يتماهى وترتيب الاعداء عند الجماعات التكفيرية الارهابية. اذا أردنا ان ننطلق من القرآن الذي يزعم هؤلاء انهم ينطلقون منه فان القاعدة القرآنية تنص على : ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾. ولو سلمنا جدلا ان الشيعة او الروافض حسب مصطلحهم هم مشركون بسبب بعض شعائرهم فان القاعدة القرآنية، رغم ذلك، تجعلهم ثانيا. لا اريد هنا الدخول في بحث فكري، لكن من اللافت جداً ان آية «ترتيب الاعداء» قد ذكرت اليهود بالاسم، رغم انه ينطبق عليهم صفة «الذين اشركوا» باعتبار ما جاء عنهم في القرآن من انهم قالوا أن عزير ابن الله : ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. اذن سمى الله اليهود بالاسم بانهم اشد الناس عدواة للذين آمنوا كي لا يُبقي عذرا لمعتذر.
وفي المقابل سنجد ان كل الجماعات التكفيرية التي تحمل الفكر الوهابي بمختلف درجاته تستعمل في ادبياتها تبعا لاستعمالات ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم العبارات التالية: الشيعة اشد عداء من اليهود، الصوفية اشد عداء من اليهود، الجهمية اشد عداء من اليهود، المرجئة اشد عداء من اليهود، وهكذا مع العقيدة الاشعرية، والماتريدية...الخ. لتكون النتيجة ان كل احد لا يحمل الفكر الوهابي البغيض هو اشد عداوة من اليهود، ليحتل اليهود بذلك ذيل قائمة الاعداء.
والمحصلة العملية لهذه اللائحة ان قتال: الشيعة والصوفية والجهمية والمرجئة والاشعرية والماتريدية مقدم على قتال اليهود. ليأتي السؤال التالي: هل سيكون هناك زمن لن يكون فيه احد من كل هذه اللائحة؟ بالطبع لا. اذن لن يأتي زمن لان تكون فيه اسرائيل على ذيل قائمة الاعداء.
بهذا الاداء السياسي المقنّع بقناع الدين كان شعار جميع الحركات التكفيرية الارهابية الوهابية هو: لكي نصل الى اسرائيل من اجل قتالها ينبغي علينا : اسقاط العراق وسوريا واليمن ومصر وتونس والجزائر وليبيا ولبنان والاردن وايران وافغانستان ونيجيريا ومالي وربما غدا اندونيسيا وسنغافورة وماليزيا والفيليبين وكل بلد فيه مسلم، يجب اسقاطهم جميعا كي يتسنى لنا محاربة اسرائيل.
عقيدة ترتيب الاعداء هذه تريد المملكة تعميمها على كل العرب والمسلمين، ولذلك يسارع كاتب المقال محمد آل الشيخ لشحذ الهمم فيطالب اللبنانيين والمصريين بل والفلسطينيين ايضا باعتماد لائحة الاعداء هذه فيقولها وبكل وقاحة ليست بالغريبة: «هذا ما يجب أن يفهمه ويتفهمه اللبنانيون، وكذلك المصريون، وأيضا أصحاب الأرض المحتلة الفلسطينيون. ولا أعتقد أن خليجيا عاقلاً، سيجعل خطر العدو الصهيوني قبل العدو الفارسي، كما أن الفلسطينيين وهم أصحاب الأرض، واللبنانيين والسوريين المحتلة جزء من أرضهم من قبل اسرائيل، يتوقعون أننا مهما كانت الذرائع والأسباب، سنجاملهم، ونضع الخطر الإسرائيلي في سلم الأولويات قبل خطر العدو الفارسي، فهم واهمون، بل أقولها مباشرة : إن كل مواطن خليجي من دول الخليج (الخمس)، يضع الخطر الإسرائيلي في المقدمة، وقبل العدو الفارسي، لأسباب قومية، أو من منطلقات متأسلمة، فهو يضحي بوطنه، وأمنه، واستقراره، بل وربما بوجوده، لنصرة قضية جاره. وهذا بالمقاييس الوطنية خيانة مكتملة الأركان».
لقد قضي الامر اذن: فقتال اسرائيل خيانة وطنية مكتملة الاركان وربما سنسمع قريبا من يطالب بمحاكمة من يثبت «تورطه» في دعم القضية الفلسطينية.
ان كل هذه المقولات والشعارت في الحقيقة ليست جديدة من ناحية عملية، اذ لطالما كانت مملكة آل سعود تعمل وفقها، لكن الجديد في الامر ان ما كان مخفياً ويعمل به في السر خرج اليوم الى العلن.