جاسر الدخيل- خاص راصد الخليج-
ما ان نشرت الصفحات الثماني والعشرين من التقرير الذي أصدره الكونجرس عام ٢٠٠٢ حول أحداث ١١ سبتمبر حتى هللت الصحافة السعودية، التي اعتبرت في التقرير صك براءة لها من التورط في هذه الهجمات. ورغم ان هذا الكشف الذي طال انتظاره يمثل أوفى تقرير علني لأدلة تورط بعض المواطنين السعوديين في مساعدة بعض المختطفين. الا ان التسوية التي دفع ثمنها ولي ولي العهد في زيارته الى الولايات المتحدة كانت تقتضي بنشر مذكرة مشتركة تصدرها المباحث الفيدرالية والاستخبارات المركزية الأمريكية في نفس يوم نشر الوثائق. «وورد بوب جراها»، عضو مجلس الشيوخ السابق، والذي كان أحد أعضاء اللجنة التي أصدرت تقرير الكونجرس، بالإضافة إلى تيري سترادا، رئيس اتحاد أسر ضحايا ١١ سبتمبر للعدالة ضد الإرهاب، اعتبرا أن مسألة تورط السعودية لم يتم حسمها بعد، وأنه يجب الكشف عن المزيد من المعلومات السرية.
قد تخفي هذه الصفحات معلومات هامة عن كيفية حدوث الهجمات ، وربما تم حذف بعض الفقرات ايضا لنفس السبب الذي كان وراء اخفائها سابقا، إلا أن نشرها يشير إلى أن هناك تشكيك في استمرار السعودية كحليف شرق أوسطي لا غبار عليه وخال من الشبهات. إن رفع السرية عن الصفحات الثماني والعشرين يأتي في أعقاب تطورات أخرى عملت على تقويض صورة السعودية التي عملت اميركا والغرب على رسمها بعناية كحليف قوي ومستقر وضروري، وهي صورة بدأت تهتز بعد هجمات نيويورك، وربما بدأت تتهشم بعد تسليط الضوء على دور المملكة والمؤسسة الدينية فيها في صناعة وتغذية وتمويل الجماعات الارهابية المتطرفة.
ان تسريب محتوى البرقيات الخارجية السعودية، وهذا يشمل مراقبة مواطنيها ومحاولة التصدي للأصوات المنتقدة في وسائل الإعلام بالخارج؛ حرب اليمن التي تسببت في مقتل آلاف من المدنيين، ما أدى إلى كارثة إنسانية، والقلق العالمي بشأن إعدام ٤٧ شخصا على خلفية اتهامات بالإرهاب، اضافة الى الهجمات الارهابية حول العالم، كلها عوامل بدت مقلقة للمملكة.
إحدى عواقب هذه التطورات هو تشريع قدمه أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس للحد من المساعدات العسكرية الأمريكية للسعودية لأنها تستخدمها في حربها في اليمن.
وفي حالة أخرى، قام مجلس النواب الأمريكي بتمرير مشروع قانون يسمح بنقل القنابل العنقودية إلى السعودية، وهو دليل على بدء أعضاء الكونجرس في التعامل مع هذا الأمر بعناية بالغة. كما قام مجلس الشيوخ الأمريكي أيضا بتمرير مشروع قانون يسمح بمقاضاة السعودية لأي دور محتمل لها في هجمات ١١ سبتمبر، بالرغم من أن الثغرة التي أضيفت في اللحظة الأخيرة لمشروع القانون سوف تبطل تأثيره. ويستمر التعبير عن المخاوف المستمرة حول تمويل المملكة للجماعات المتطرفة والمساجد حول العالم. فبعد مذبحة أورلاندو التي وقعت الشهر الماضي، على سبيل المثال، أعلنت هيلاري كلينتون ان السعودية ودول الخليج الأخرى لا يبالون بتمويل مواطنيهم للتطرف العنيف – وهذه ليست أول مرة تخص فيها المرشحة الديموقراطية المحتملة السعودية بالذكر بهذه الطريقة خلال حملتها الانتخابية.
كما تجري إعادة تقييم العلاقات مع السعودية في أماكن أخرى. فقد قررت السويد العام الماضي عدم تجديد اتفاقية الأسلحة السعودية التي بدأت عام ٢٠٠٥، بسبب مخاوف بشأن السجل الحقوقي للمملكة. وقد سحبت المملكة عرضها الذي يقدر بـ 5.9 مليون جنيه استرليني والمتعلق بإنشاء سجون بعد انتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان من قبل مسؤولين محافظين ومسؤولين من حزب العمل. وقد اتخذت بلجيكا وهولندا خطوات لإنهاء أو وضع حدود لمبيعات الأسلحة للممكلة. كما أصدر الاتحاد الأوروبي قرارا غير ملزم للدول الأعضاء بتعليق مبيعات الأسلحة. وقد شرعت كندا في صفقة أسلحة مثيرة للجدل تصل قيمتها إلى ١٥ مليار دولار (قامت الحكومة السابقة بتوقيعها) وسط غضب شعبي عارم ومطالبات بإلغائها ودعوى تقول بأن الصفقة مخالفة للقوانين الفيدرالية التي تحظر هذه المبيعات لدول يشتبه في استخدامها للأسلحة ضد المدنيين أو لديها سجل من الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان. وقد اعترف وزير الخارجية الكندي ستيفان ديون، بالرغم من أن يتحمل مسؤولية الضغط لإتمام الصفقة، بالمخاوف الشعبية مشيرا إلى أن مسألة بيع الأسلحة للسعودية ربما من الأفضل أن تترك للناخبين.
وردا على الوضع المعقد لصفقة الأسلحة الكندية، دافعت السعودية عن نظامها القضائي الذي قالت أنه “دعا غلى حفظ وحماية حقوق الإنسان”، بالرغم من أن فريدوم هاوس يصنفها على أنها من بين الأسوأ في جميع فئات مؤشرات الحريات. وقد سعى المسؤولون السعوديون الحاليون والسفراء والمستشارون السابقون بشكل متزايد إلى الدفاع عن أفعال المملكة وصورتها أمام العامة، مشيرين إلى دور السعودية المحوري في محاربة الإرهاب العالمي بالتحالف مع الولايات المتحدة. إنهم يسعون لتبرير “عملية عاصفة الحسم” السعودية في اليمن، حيث يقولون أنها تهدف إلى إعادة “النظام الشرعي” و”محاربة جماعة مسلحة تدعمها إيران”. وقد تضمنت حملة العلاقات العامة هذه جهودا لتعزيز رواية مضادة للأصوات المنتقدة للمملكة، ومن بينها استخدام شركات علاقات عامة أمريكية للتأثير على صناع السياسة والصحفيين في الولايات المتحدة ومحاولة فرض رقابة على الأصوات التي تنتقد السجل الحقوقي للمملكة. وفي مارس عام ٢٠١٦، تم تأسيس لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريكية، وهي أول مجموعة تعمل داخل الولايات المتحدة تكون مهمتها العمل على تقوية العلاقات السعودية الأمريكية وتسليط الضوء على فرص الاستثمار. وربما يعد برنامج “رؤية ٢٠٣٠”، الذي يعد محاولة لتنويع وتحديث الإقتصاد السعودي، ويشمل الخصخصة الجزئية لشركة أرامكو للنفط المملوكة للدولة، جزءا من محاولة التأثير هذه، حيث ترقب البنوك الدولية الاستفادة من المشروع.
الإجابات المتعلقة بتورط السعودية في هجمات ١١ سبتمبر يبدو أنها بعيدة المنال ومجهولة. ولكن الأسئلة أصبحت تثار بشكل غير مسبوق، ويتم اتخاذ إجراءات لاحقة متعلقة بالسعودية، وتمتد إلى ما هو أبعد مما تحتويه الثماني وعشرين صفحة التي صدرت قبل ١٤ عاما، وتتنبأ بإعادة تنسيق الولايات المتحدة والدول الغربية لعلاقاتها مع القوة الشرق أوسطية.
الا ان الامر الذي لا شك فيه ايضا، ان هذه الاوراق ستكون عنصر ابتزاز للمملكة اقتصاديا وسياسيا، وسيكون دافع ضريبته الاكبر هو المواطن السعودي اولا واخيرا.