فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
تعبر الدول والأنظمة أيامها الوطنية، بكثير من الفحص والتعلم، وصولًا للنقد الذاتي لتجاربها ومشاريعها، الفاشل منها قبل الناجح، لتصويب الخطى وتوفير تكلفة المضي في طرق أثبتت خطئها، هذا هو ما يحدث في العالم من حولنا، وأثبت المرة تلو المرة نجاعة في حل المشكلات والأزمات.
الأسبوع الحالي، الذي يشهد احتفال المملكة بعيد تأسيسها الـ 88، تطوي فيه الدولة كل ما فات، وتستعد لعصر جديد بالكامل، تبدى في حفلات غنائية، ووسائل ترفيهية، بلغت طبقًا لبيانات "هيئة الترفيه" 135 فعالية فنية، والتي أصبحت خلال العام المنصرم، إحدى الثوابت في العهد الجديد.
على الجانب الآخر، البعيد عن أضواء الألعاب النارية، يشع البؤس في ظلام المدن المنسية، والشوارع الخلفية للرياض والدرعية وغيرهما، بفعل واقع اقتصادي أصاب المواطن، وهو الحلقة الأضعف في المملكة دائمًا، بعد وعود الرخاء المنطلقة مع تدشين إصلاح اقتصادي، أصبح مثار سخرية أو بكاء.
المملكة لجأت خلال الشهور الماضية، لعمليات استدانة دولية واسعة، علها تغطي العجز المتفاقم في الموازنة العامة، وتؤجل انفجار فقاعة سوء إدارة الملف الاقتصادي، والتي تكاد تنفجر، بغية الوصول إلى لحظة تتويج ولي العهد، بلا أزمات خانقة، تضغط أكثر فأكثر على قطاعات ونخب غاضبة.
القروض التي رتبها وحصل عليها صندوق الثروة السيادي، بلغت نحو 11 مليار دولار من 15 بنك عالمي، هي: "ستاندرد تشارترد"، و"بي.إن.بي باريبا"، و"إتش.إس.بي.سي"، و"سوسيتيه جنرال"، و"ميزوهو فايننشال غروب"، و"كريدي أغريكول"، و"مجموعة سوميتومو ميتسوي المصرفية"، و"بنك أوف أمريكا"، و"بنك الصين"، و"بنك الصين الصناعي والتجاري"، و"سيتي غروب"، و"غولدمان ساكس"، و"جيه.بي مورجان"، و"مورجان ستانلي"، و"مجموعة ميتسوبيشي يو.إف.جيه المالية".
الخطوة غير المسبوقة، في تاريخ أغنى بلد عربي، أدخلت المملكة في عصر الديون الأجنبية، مهما قيل عن هدف الاقتراض، وأسبابه، يبقى أن الإدارة الاقتصادية للبلد لم تجد سبيلًا من ضغط الإنفاق العسكري –على سبيل المثال- بدلًا من ارتفاعه لرقم يسبق دولة عظمى مثل روسيا، ففي موازنة 2018 استحوذ القطاع العسكري على أعلى نسبة من الاعتمادات في العام المالي، حيث خصص محمد بن سلمان 210 مليارات ريال للإنفاق العسكري، أي ما يعادل 21% من الموازنة كلها.
الإنفاق العسكري غير المناسب لظروف تراجع أسعار النفط، طوال أعوام ثلاثة سابقة، يتوازى مع ضغوط شديدة على موظفي الدولة، للمسارعة بتطبيق خطط التحول، التي تشملها "رؤية المملكة 2030"، المنسقة مع الهيئات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
والتعامل من صندوق النقد الدولي، ليس مهمة سهلة، لأنه يتطلب التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي القاسي، لذلك كان يجب على الحكومة الفهم الصحيح لمتطلبات الصندوق، ووضع برنامج الإصلاح بناء على الفهم لا التوقعات، حيث يتضمن البرنامج المطلوب من أي بلد أربعة أعمدة رئيسية، الأول هو رفع الدعم عن طريق زيادة أسعار الطاقة، وكذلك تكاليف الخدمة العامة، والثاني هو تطبيق واسع للضرائب والجمارك، فضلًا عن تقليل الرواتب الحكومية كنسبة مئوية من موازنة البلاد، والثالث هو تطبيق نظام سعر الصرف المرن، ليبعد الدولة عن ضبط سعر الريال، والرابع هو خصخصة بعض الشركات والبنوك المملوكة للدولة لزيادة الإيرادات الحكومية، من غير طريق النفط.
الرؤية المتوافقة مع أجندة صندوق النقد، تطلبت حتى الآن رفع الدعم بشكل تدريجي، وصولًا لإنهائه، فضلًا عن ارتفاع الأسعار وفقدان العملة بعضًا من قيمتها، خاصة وإن المملكة تعتمد على الاستيراد، الذي يضغط على ميزان المدفوعات، مما يؤدي إلى زيادة التضخم وتدهور قيمة الأجور الحقيقية.
برنامج الإصلاح حقق، من واقع الأرقام الحكومية المعلنة، معدلات تضخم مرتفعة، ونسب بطالة بين الشباب غير مسبوقة، رغم كل جهود السعودة، وحقق الاقتصاد خلال عام 2017، نموًا عند 0.2% فقط، وهو واحد من أقل معدلات النمو خلال الـ 88 عام الماضية بأكملها، وارتفعت قيمة الدَّين العام حتى نهاية السنة الماضية، حسب بيانات موازنة 2018، إلى 438 مليار ريال، مقابل 316 مليار ريال نهاية 2016.
الدول تتعلم من أزماتها لتكمل طريقها، والدولة السعودية اليوم في أزمة، والطريق الذي بدأ في 1902، بالتوحيد، يمر الآن عبر أدق تحدياته، وهي الحفاظ على الدولة، بوجه "إفشال مستمر"، والتجارب الدولية السابقة أثبتت أن مشاركة المواطن هو الشرط اللازم لنجاح أي عمليات إصلاحية أو تحديثية واسعة، تمتد لتغطي الوطن كله، وهذا للأسف هو الشرط الغائب عن المملكة في يومها الوطني.