مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب جنوده من سوريا مفاجئاً أبداً، فهو منذ مطلع نيسان/ أبريل مهّد لهذه الخطوة وبكل وضوح، حين قال خلال مؤتمر صحفي له مع رؤساء دول البلطيق في البيت الأبيض: "نعمل على خطة للخروج من سوريا، وإذا كانت السعودية ترغب ببقائنا فيها فيجب عليها دفع تكاليف ذلك"، معتبراً أن التدخل الأمريكي في سوريا مكلف ويخدم مصالح دول أخرى، مشيراً إلى أن واشنطن أنفقت 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية ولم تجنِ سوى الموت والدمار.
اعتراضات غير مجدية
الكثير من التعليقات والتفسيرات وضعت هذا الموقف آنذاك في خانة الابتزاز الأمريكي للسعودية، وهذا صحيح، حيث اندفع ولي العهد محمد بن سلمان إلى مطالبة ترامب بالإبقاء على قواته في سوريا ولو مؤقتاً، معتبراً في حديث لصحيفة "تايمز" أن هذا الوجود يسمح لأمريكا بأن يكون لها رأي في مستقبل سوريا، وهو بمثابة الجهد الأخير لوقف إيران عن توسيع نفوذها مع الحلفاء الإقليميين، ولا نغفل الربط بين توقيت إعلان ترامب هذا الموقف وزيارة ابن سلمان لواشنطن، وما نتج عنها من طلب لزيادة حجم الاستثمارات السعودية ورفع قيمة صفقات التسليح؛ ولكن ترامب مضى في تنفيذ قراره معلناً في 19 كانون الأول / أكتوبر أن "المهمة الأساسية للقوات الأمريكية في سوريا هي القضاء على داعش وقد تمّت"؛ ولم يأبه لموجة الخلاف والإعتراض داخلياً، وحتى في داخل معسكر حزبه الجمهوري، والتي أدّت إلى الإطاحة بوزير الدفاع جيمس ماتيس، كما ظهر الخلاف جلياً في تصريحات مسؤولي الخارجية والدفاع الذين أكّدوا قناعتهم بأن البقاء هو الاستراتيجية الصحيحة وأنهم لم يكونوا مطّلعين على تفاصيل القرار، أما خارجياً فقد نشأت مخاوف جدّية من تداعيات الانسحاب لدى كل من المملكة السعودية وإسرائيل، إلى جانب مواقف حذرة وقلقة من قبل الحلفاء الأوروبيين والعرب.
لا دبلوماسية وقحة
لما يقتنع أحد حتى الآن بأن ترامب لا يقود الولايات المتحدة كرئيس وفق مبادئ السياسة والتوازن في العلاقات والمصالح الدولية، بل هو منذ أن برز في قطاع الأعمال يطبّق قاعدة واحدة هي: "إدفع وأنا أربح"، ولذا فإن غالبية مواقفه وتصريحاته - إن لم نقل كلها - مقترنة بتحصيل المال بكل السبل والأسباب وبدون محاذير أو معايير سياسية، وهو لا يجد حرجاً من افتعال المشاكل والقلاقل مع حلفائه من الأوروبيين وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ومع أخصامه وعلى رأسهم روسيا والصين وإيران، سعياً لإخضاعهم بـ"لا دبلوماسية وقحة"، تنفيذاً لمبدأ الابتزاز التجاري، ولعلّ أوقح مثال على هذا الأمر توجيه ترامب الشكر للسعودية لموافقتها على إنفاق الأموال اللازمة للمساعدة في إعادة بناء سوريا، مضيفاً في تغريدة له: "أليس من الجيد أن تساعد الدول الغنية بشكل كبير في إعادة بناء جيرانها بدلا من الولايات المتحدة التي تبعد 5000 ميل؟!".
الأسد باقٍ..
لم يجد ترامب أي حرج في الإذعان بأن الرئيس السوري بشار الأسد باقٍ في الحكم، وفي هذا تقويض لكل ما جرى خلال السنوات الثمانية من الحرب التي أهلكت البشر والحجر، وأصبحت سوريا التي يحكمها الأسد - في نظر ترامب - جارة للسعودية، ومن الجيد إنفاق المال السعودي لإعمارها بدل الولايات المتحدة، فهل جاء دمار سوريا إلا بدفع من واشنطن وحلفائها وبالمال السعودي والخليجي؟! وهل أنشئت داعش إلا بجهود المخابرات المركزية الأمريكية لتأتي السعودية اليوم وتدفع المليارات مجدّداً لتمويل الحرب لإنهاء وجودها؟! أما ما يجدر التوقف عنده هو التوكيل الكامل الذي منحه ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في استكمال الحرب ضد الإرهابيين في سوريا، والقاصي والداني يعلم أن العقدة الأساسية لأردوغان هي في قوات "سوريا الديمقراطية" الذي تموّلها واشنطن ويغلب على عناصرها الانتماء للأكراد الذين تعتبرهم أنقرة تهديداً مستمراً لها، ولا سيما في تمركزهم بالشمال السوري على الحدود مع تركيا، وهو ما يشي بوجود تفويض لأنقرة بالقضاء على هذا الجيش، وهو الذي كان ينعقد الرهان عليه في المساهمة برسم صورة سوريا الجديدة، واعتباره عنصراً أساسياً في أي مفاوضات قد تفضي إلى حل سياسي بات متفقاً عليه من كل الأطراف في سوريا.
والسعودية لإعمار سوريا
معظم التحذيرات نبّهت من أن الفراغ الأمريكي سيكون فرصة لملئه من قبل إيران وروسيا اللتين تعكفان مع تركيا على تشكيل بنية جديدة للنظام في دمشق، سواء من خلال الاتفاق على مشاريع إعادة الأعمار أو إعادة صوغ الدستور بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وتبدو واشنطن حتى الآن بعيدة عن لعب دور مؤثر في هذه المساعي، والآن تبعد نفسها أكثر من خلال الانسحاب، وعليه أين سيكون موقع السعودية في المسرح السوري؟! وكيف سيتم توظيف الأموال السعودية لإعمار سوريا في رسم صورة المستقبل السياسي في المنطقة، وهي على خط الخلاف مع كل من إيران وروسيا وتركيا؟! وما هي الأسس التي استند إليها ترامب في الإعلان عن القضاء على داعش في ظل التقديرات العسكرية الأمريكية أن هذا التنظيم الإرهابي لا يزال يضم في صفوفه ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل في سوريا والعراق، بما يعطيه القدرة على إعادة الانتشار في المماطق التي طًرد منها، وخصوصاً في الرقة ودير الزور والحسكة شمالي شرقي سوريا؟!
سوريا كلها لأردوغان ؟!
نشرت شبكة CNN الأمريكية مقتطفات من مكالمة هاتفية دارت بين ترامب وأردوغان، حيث قال له ترامب: "سوريا كلها لك.. لقد انتهينا".. وأتبع ترامب ذلك بتغريدة له قال فيها: "أردوغان أبلغني بأنه سيقضي على ما تبقى من داعش في سوريا، وهو الرجل الذي يستطيع فعل ذلك".. إنها فعلاً خيبة جديدة وصفعة إضافية توجّهها واشنطن إلى السعودية، فالكل هناك مقتنعون بأن الأسد انتصر في الحرب، وليس أمام الولايات المتحدة من خيار سوى التفاوض المباشر مع سوريا وإيران وروسيا بدل الجلوس معهم خلف الستارة، وأنهم يفضّلون أن ينفقوا الأموال في خلق فرص عمل وتشييد الطرق والجسور في الولايات المتحدة بدل إهدارها على حروب خاسرة، ومن المؤكد أن هذه الأموال تؤمنها الدول الغنية كالسعودية ودول الخليج الغارقة في نزفها السياسي والمالي، فألى متى سيببقى العرب أسرى الخلافات الداخلية والحمق والغباء والتبعية للتاجر الأمريكي؟!