مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
لم يكن الخامس عشر من شهر آذار / مارس عام 2011 يوماً عادياً على دمشق.. أشرقت الشمس آنذاك على سوريا في ربيع من نوع آخر، قيل عنه إنه "ربيع عربي" وصلت رياحه من المغرب العربي.. لم يكن الرئيس السوري بشار الأسد يومها يظن أن هذه الرياح ستضرب أبواب عاصمة العروبة، وتحوّل عراقة التاريخ فيها إلى أطلال وكأنها اندرست بفعل طوفان، أو تهدّمت بفعل زلزال.. يومها استفاق الأسد على وقع مظاهرات جرت في بعض المناطق السورية مطالبة بإطلاق الحريات ورفع حالة الطوارئ، وتدرّجت وصولاً إلى المطالبة بإسقاط النظام، وسرعان ما عمّت التحركات الشعبية متخّذة شكل اعتصامات في كبريات المدن السورية، رافضة المواقف التي أطلقها الرئيس الأسد واعداً فيها بإجراء إصلاحات في البلاد.. ووقع الصدام.
من الشارع إلى صالون الأسد
الكلّ آنذاك كان يراقب الوضع بدقّة وعناية.. هل اقترب نظام الأسد من شفير الهاوية؟! هل ستبدأ سوريا في عصر جديد على غرار ما حصل في تونس ومصر ولاحقاً في ليبيا؟! هل سيرتدي قلب الوطن العربي حلّة جديدة بعيدة عن حكم ال الاسد لصالح نظام آخر يستجيب للشعارات المرفوعة بضرورة اعتماد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟! كانت أسئلة محورية تدور في أذهان بعض الذين كانوا يدعمون اتجاه التغيير مستفيدين من فوضوية الحراك الذي تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مجموعة من الغيلان، وكل واحد منهم اتخذ شعاراً خاصاً به في المطالبة بتطبيق نظام الخلافة الإسلامية، تارة تحت شعار جبهة النصرة، وأخرى تحت لواء تنظيم داعش.
وقع الرئيس السوري في فخ التحرّك العسكري وقمع التحركات على الأرض، وسرعان ما تجنّدت امبراطوريات إعلامية كبرى عربية وغربية في تظهير عمليات القمع هذه إلى جرائم، والترويج لمطالب الحراك الذي تبنّى هذه المرّة الخطاب الديني - العقائدي - المذهبي، وتزامن ذلك مع ترتيب انشقاقات في المؤسسة العسكرية السورية ومؤسسات أـخرى رسمية مدنية، فضلاً عن تأسيس تنظيمات قتالية تم تسليحها بمختلف أنواع الأسلحة التي تكفل حدوث جولات قتال تأخذ شكل معارك ولا تصل إلى حدود الحرب.. الفرصة سانحة الآن بعد أسابيع من اندلاع الحريق الذي بات يهدد أسوار دمشق، لينتقل الحديث من الشارع إلى الصالون المحاذي لمكتب الأسد في قصر الرئاسة السورية.
دمشق بين مسارين
كان ثعلب أنقرة السياسي وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو واقفاً في الصالون يشرح للرئيس الأسد آفاق المرحلة المقبلة، باحتمالات تدحرجها وما يمكن أن ينشأ عنها من مخاطر على سوريا، ما حتّم وقفة تأمّل طويلة من الأسد للتفكير في الخيارات المتاحة لإنقاذ سوريا مما هو مرسوم لها من دمار وتشتّت وانهيار.. هنا تدخّل أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بلغة حاسمة ليرسم للأسد مسارين، الأول يقود إلى الخراب إذا استمر الأسد في قراره بمواجهة مخطط تدمير سوريا في ظل شبه إجماع عالمي وعربي على التخلّص منه ومن حكمه، والثاني يقود إلى النماء وتثبيته في حكمه وتحويل سوريا إلى قبلة للمشاريع الاستثمارية ما سينعكس على سوريا إزدهاراً وتطوّراً على المستوى الاقتصادي، فضلاً عن دعمه سياسياً وعسكرياً ولا مانع من السماح بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان حتى الحدود مع فلسطين المحتلة، ولكن اعتماد هذا المسار يتطلب من الأسد فك الارتباط بين سوريا وإيران أولاً، والتخلّي عملياً عن تبنّي خيار المقاومة مع الحفاظ على الأدبيات الإعلامية والسياسية حول تحرير فلسطين والعروبة وما شابه من الشعارات الشعوبية الرنّانة.. رفض الرئيس الأسد وغادر أوغلو وبن خليفة على حنق.. واستعرّت النيران في سوريا أكثر فأكثر.
الأسد ربح الرهان
ثماني سنوات مرت على ذلك القرار، وقع خلالها سلسلة من الزلازل القاصمة، فتغيّرت تفاصيل الخرائط العسكرية والسياسية في سوريا بفعل التدخّل الإيراني بمؤزرة حلفائها من العراق ولبنان وأفغانستان وكذلك التدخل الروسي على خط المواجهات الميدانية، وفي المقابل اندلعت النيران في الخاصرة الجنوبية للمملكة السعودية، وانكفأت الولايات المتحدة عن أجزاء متعددة من المسرح السياسي في المنطقة، وتبدّلت الأحلاف العربية والغربية ولم تعد تركيا وقطر تتحدثان باسم السعودية والإمارات، بل انقلب المشهد إلى خنادق ومعسكرات تعج بالمتاريس السياسية، فيما كان الأسد يستعيد سيطرته على سوريا على الرغم من مئات الآلاف من القتلى والجرحى والخراب العمراني، ولكنه ربح في الميدان والسياسة وكانت رهاناته في محلّها، فها هم العرب بدأوا مسيرة العودة إلى دمشق، بمواقفهم الايجابية وبفتح سفاراتهم، وبالمبادرات الظاهرة والخفية التي تؤكد على عودة اللحمة العربية إلى سابق عهدها، لتستعيد جوهرة دمشق بريقها من جديد.
من يقنع الأسد بفتح صالونه من جديد؟
لا داعي لاستعراض كل ما جرى في السنوات الثماني العجاف لتبرير الواقع الراهن، فما قد تحمله الأيام المقبلة من تطوّرات قد تمحو كل ما سبق باتجاه فصل جديد من العلاقات العربية - السورية، مع الإشارة إلى أن العلاقات الغربية - السورية لم تنقطع يوماً على الرغم من المواقف المعلنة من قبل الأوروبيين والأمريكيين وغيرهم، وتشهد الغرف المغلقة على الكثير من الاجتماعات التي جرت في ديوان القصر الرئاسي السوري، وكانت كلّها تشدّد على استمرار الصلة دون قطعها، وعليه فإن الخاسر الأكبر هم الذين رفعوا راية العداء والحرب دون تدبّر، وها هم يستعدون اليوم للرسو في مطار دمشق، وما عودة الإمارات والبحرين إلى سوريا سوى بروفة أوّلية تمهّد للعودة الكبرى، وستكون السعودية من ضمن العائدين طبعاً إن لم تكن على رأسهم، لا سيما بعد أن استغنت عن فريق الحرب في مؤسسات الحكم فيها، وفي مقدمتهم وزير الكراهية عادل الجبير الذي لم يجرّ على المملكة السعودية سوى الويلات من جراء الأخطاء التي ارتكبها بفعل سياساته الرعناء، ومن هنا فلن نستغرب أبداً أن نرى الملك سلمان ضيفاً مرحّباً به في قلعة دمشق، ولكن هل هناك أحمد داود أوغلو آخر وحمد بن خليفة آخر مستعدان أن يجلسا مع الرئيس الأسد ويقنعانه هذه المرّة باستقبال العائدين؟!