مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
كان هدير محرّكات الشاحنات التي تسحب منظومات الصواريخ الإماراتية من "الحديدة" قوياً جداً، لم يطغَ عليها سوى صراخ الضابط المسؤول عن الجنود الإماراتيين في مأرب، وهو يحثّ عساكره على الإسراع في تفكيك مواقعهم والإنسحاب منها، إما إلى أرض الوطن أو إلى مراكز أخرى مخصّصة للإتصالات والمراقبة.. لم يعد للإمارات من دور في اليمن بعد أربع سنوات ونيّف من الاستنزاف المادي والبشري واللوجستي دون تحقيق أي نتيجة على أرض الميدان، وكان الاتفاق بين قوى التحالف العربي ضد الحوثيين أن تكون المعركة في أرض الخصم، ولكن الذي جرى أن أبو ظبي أصبحت اليوم تحت مرمى صواريخ الحوثي وطائراته المسيّرة المفخّخة، وهو ثمن ليست الإمارات مستعدة لدفعه بالتأكيد وبأي شكل من الأشكال.
بالأمس أسقطت إيران طائرة تجسس أمريكية متطوّرة، وقبلها تم استهداف ناقلات نفط في ميناء الفجيرة ومصفاة نفط سعودية في ينبع البعيدة جغرافياً عن الحدود اليمنية الشمالية، والحركة في مطاري جازان وأبها غير مستقرّة بسبب الهجمات الجوية المفخّخة، والحوثي يهدّد بأن الدور قادم على أبو ظبي وغيرها من المدن الإماراتية، وها هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتوسّل الإيرانيين لبدء مفاوضات وتستنفر أوروبا للوساطة كي توقف طهران عزمها على رفع مستوى تخصيب اليورانيوم، فماذا فعلنا ونحن ندخل السنة الخامسة للحرب في مستنقع اليمن؟! وماذا يقول الإماراتيون الذين باتوا يعيشون هاجس الخوف وتتردد في آذانهم أصوات طائرات الدرون، فأصبحوا يسيرون ورؤوسهم مرفوعة إلى السماء ليس شكراً لله، بل خوفاً من غارة جوية حوثية مفاجئة؟! ماذا نقول لأهالي الجنود الذين قضوا في المعارك التي خاضوها من أجل مكاسب لم تتحقّق؟!
لسنا هنا لنتحدث عن الإماراتيين وولي عهدهم محمد بن زايد، فلهم ألسنتهم وعباراتهم ومواقفم التي يسوقونها لتبرير الانسحاب الذي بدأ عملياً منذ منتصف العام 2018، ونراه اليوم وقد ارتدى لباس الدبلوماسية تحت عنوان "إعادة انتشار لأسباب إستراتيجية وتكتيكية، والانتقال من إستراتيجية القوة العسكرية أولاً إلى إستراتيجية السلام أولاً"، ولسنا هنا لنتحدث عن الأسباب التي حدت بالإمارات "الحليفة" إلى إنسحابها من تحالف كان حتى الأمد القريب يؤكد استمراره في تنفيذ خطته الاستراتيجية لتحرير اليمن من قبضة الحوثيين، فإذا بها تضع ذيلها بين قدميها، وتلملم آثارها المحروقة وتترك المملكة لوحدها في الميدان تكابد في مواجهاتها الداخلية والخارجية، وتستوعب الضغوطات السياسية والأمنية والاقتصادية، في ظل شراهة ترامبية غير مسبوقة أمريكياً لاستنفاد خيرات السعودية حتى آخر هللة، فالحديث في الجوهر هو ماذا ستفعل الرياض بعد أن انفضّ الجمع عنها؟
ما يبعث على الألم في أروقة القرار السياسي السعودي أن كل العناقات والضحكات والابتسامات من محمد بن زايد تجاه ولي العهد محمد بن سلمان لم تكن سوى تعبير عن واقع لحظة راهنة، ولكن عند أول تهديد جدّي تراجعت الإمارات إلى المربع الأول لتبدأ مساراً جديداً في الاتجاه المعاكس تماماً، يحدوها بذلك الخوف من أي حالة تدهور قد تحصل في منطقة الخليج تحرق الأخضر واليابس، وبالتالي لم تتوافق حسابات أبو ظبي التي تخشى اشتعال حقولها العامرة مع بيدر الرياض الذي يتعرّ دوماً لانتهاكات ترامب وحلفائه، فبعثت في انسحابها برسالة إلى الحوثيين مفادها أن الإمارات اقتنعت بفشل الحل العسكري، وهي مستعدة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ويبقى على الطرف الآخر (السعودي) أن يحسم قراره بهذا الشأن، وكأنها تعلن الهزيمة لها وللسعودية، وسقوط الخيارات التي راهنا عليها في إيجاد كيان حكومي تابع لهما (حكومة هادي) بقوة السلاح.
وما يستوجب التوقف عنده هو عدم التنسيق مع الرياض بشأن هذا الانسحاب، في مؤشر رآه محللون غربيون أنه ناتج عن تعمّق حالة التباين بين عاصمتي التحالف، و"نقلة إستراتيجية قد تؤدي إلى عزل السعودية"، وفق ما جاء في تقرير لمعهد "واشنطن للدراسات" الذي رجّح ازدياد "حالة التباعد بين البلدين، وخلق المزيد من التوتر بينهما في وقت عالي الحساسية بمنطقة الخليج"، وهذا التباعد كان موجوداً في الأصل على المستوى الميداني، بحيث لم تقم قوات البلدين بأي عمليات عسكرية مشتركة، فالقوات السعودية تولّت الحرب في الشمال والإماراتية في الجنوب، وهذا لا يدلّ على تقاسم أدوار بقدر ما يدلّ على عدم ثقة أي من الطرفين بكفاءة الآخر ميدانياً، فضلاً عن وجود أجندتين مختلفتين من الأهداف، فهل ستكمل السعودية الحرب لوحدها؟ وهل ستحقّق لوحدها ما عجز التحالف برمّته عن تحقيقه على جبهة اليمن؟
من الواضح أن المملكة السعودية تقف اليوم على مفترق جديد في خارطة السياسة والحرب في ما يتعلق بجبهة اليمن، وقد يشكّل قرار ابن زايد البداية التي يحتاج إليها ابن سلمان للتفكير في ما سيفعله في ساحة المعركة على حد تعبير المحلل البريطاني "بيل لاو"، الذي رأى في مقال نشره موقع "ميدل إيست آي" أن "ابن سلمان يتخبّط داخل مستنقع الفشل؛ ويواجه خصماً (حوثياً) ماهراً لا يرحم، وعصيّاً على الزحزحة من مناطقه شمال البلاد والعاصمة صنعاء، وقادر على ضرب أي مطار داخل الأراضي السعودية، لا سيما في ظل فشل نظام الدرع الصاروخي المضاد"، فإما أن تستمرّ في استنزاف قدراتها المالية والعسكرية لهدف لا يبدو أنه في وارد التحقّق، أو أنها تجيّر الانسحاب الإماراتي لصالحها كبروفة تحضيرية تمهيداً لانسحابها، والبدء بتحضير ملفاتها للجلوس على طاولة محادثات ثنائية سعودية - حوثية مماثلة لتلك التي جرت في العام 2016.