فؤاد السحيباني- راصد الخليح-
يتفق البشر على صدقية مقولة إنه "ليس هناك جيش أقوى من فكرة جاء أوانها"، المنسوبة لفيكتور هوجو، وتلخص في بساطة وعمق شديدين، جزءاً من حركة التاريخ، ومآلات الفعل القادر على كتابة المستقبل، وبالمثل يمكننا أن نقول إنه ليس هناك ضياع أكثر من فكرة جاء أوانها ولا تجد طريقًا للترجمة على أرض الواقع.
باختصار فإن الفارق الشاسع بين الإنجاز والإفلاس يكمن في المسافة الضخمة الواقعة بين القدرة والعجز، بين الرؤية والسراب، أو بين الحلم كفعل إنساني مذهل، يستند لأرض، ويقف على حقائق، وبين الوهم، كتحليق لا ينقطع لسماوات لا تنتمي لعالمنا المعاش.
المملكة العربية السعودية أدركت أن المراجعة هي الفكرة التي جاء وقتها، بلا جدال، وسارع المخططون –الاقتصاديون خصوصًا- إلى شرح وتوضيح عالم ما بعد النفط، لا تعد فيه الأموال تأتي مع تدفق الذهب الأسود من الحقول إلى أسواق العالم، ويكون المستقبل فيه رهنًا بشكل جديد للبلد، يأخذ من العالم أفكاره، بالقدر ذاته الذي يحصل منه على الدولارات.
بدايةً، فإن المملكة، التي تشكل الاقتصاد العربي الأول، ومحط الأنظار والاهتمام الإسلامي، بفعل الموقع كمسيطرة على أقدس الأماكن الإسلامية، ومحركًا لأحداث الجزيرة العربية بالكامل، والشرق الأوسط من ورائها، دخلت اللحظة الحرجة لعملية المراجعة والإصلاح المطلوبة، دون أن تدرك أنها الفرصة الأخيرة، لتعبر إلى المستقبل، وظن الملك وولي عهده إنه خيار ضمن خيارات، ففشلت طوال سنوات خمس، وفوتت الفرصة الثمينة، والفرص في حياة الأوطان لا تأتي مرتين.
السعودية خاضت معركتها بسلاحها القديم، الدائم، ويمكننا تشبيهها بمثلث قوة، ذي أضلاح ثلاثة، 1- الإمبراطورية الأميركية الضامن والحامي للملكة وللأسرة معًا، 2- فوائض البترول الهائلة الموجودة لدى صندوق الثروة السيادية، 3- ولاء كامل وتام يحصل عليه الجالس على عرش عبدالعزيز يضمن له القوة والنفوذ المالي والديني تأكيده وتمتينه، طوال حكمه.
إذًا قرر إبن سلمان خوض معركته مستندًا لما ظن أنه عوامل القوة المطلقة، المتحكمة في بلده وخارجها، لكن الفارق هذه المرة، إنها شواهد قوة "قلقة"، لم تعد كما السابق مطلقة، الظروف تغيرت، والنهر جرت فيه مياه كثيرة، جعلت من النزول إليه مغامرة، خسائرها أعمق من التصور.
الولايات المتحدة الأميركية، القوة العالمية الأخطر، مارست منذ دخولها إلى الشرق الأوسط، مع الرحلة الأشهر للرئيس الأميركي روزفلت، على ظهر الطراد كوينسي، في وقت كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، وتخلق عالمًا جديدًا استمر حتى فترة قريبة ماضية، كانت الولايات المتحدة هي قائدة العالم الغربي، وخزينة تمويله القادرة، ومصنعه المتطور، وفرضت الحقائق الأميركية نفسها في الشرق الأوسط، كما فعلت في كل أنحاء العالم وقتها.
التقط الملك المؤسس "عبدالعزيز" الطعم بفهم للواقع العالمي، وخبرة بوضع دولته الهش أمام تحد شرقي –شيوعي- رآه خطرًا على عرشه ومملكته، حديثة التكوين وقتذاك، ودخل فورًا في مظلة الحماية الأميركية، وترك شمس بريطانيا الغاربة.
وطوال العقود التالية، ظلت المظلة الأميركية موجودة، تدفع الأطماع برهبة التخويف، أكثر مما تمارسه بالسلاح والنار، إلى أن وقعت واقعة الاجتياح العراقي للكويت، وتطلب الأمر أن يؤدي السلاح دورًا لازمًا، وجاءت واشنطن إلى المنطقة، في استعراض للنفوذ، واضح قاطع، تلبية للمخاوف السعودية من تحرك إضافي لـ"صدام" إلى حقول بترول الخليج الفارسي.
الوجود الأميركي، مطلع التسعينات، مع تفكك الاتحاد السوفيتي، كان إضافة لدور موجود بالأساس، فتضخمت وتعمقت التدخلات بالحقائق الجديدة، إلى حد أن كانت واشنطن تحمل صافرة حكم المباراة، في أي شأن سعودي، سواء شؤون الحكم أو البترول، عوضًا عن تنسيق خفي، كان يجري بصمت، ودون تحميل المملكة وزر التصرفات الأميركية في المنطقة، وعلى رأسها الدعم الكامل للكيان الصهيوني، ومعاداة الأماني العربية.
ظل الوجود والدور ينمو، في غياب إرادة سعودية للتغيير، الكل كان يتعامل مع المعادلة المفروضة كأنها القدر الحتمي، فالقلة من الأمراء حصلت على النفوذ، والأكثرية تم شراء رضاها بالمال وبأنصبة متزايدة من عوائد البترول المتضخمة، ولا شك الآن لدى أي طرف، محلي أو خارجي، من أن تصعيد "إبن سلمان" إلى مقعد ولي العهد، تم بكارت الرضا الأميركي وحده، دون النظر للأوزان الحقيقية والقبلية لمنافسيه من الأسرة المالكة.
لكن ونحن على أعتاب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فإن القوة الأميركية تبدو مأزومة، لا تستطيع الاستمرار بلعب دور حكم المباراة في السعودية، ولا في الشرق الأوسط، ولا تعطيها أوضاعها الاقتصادية المتراجعة القدرة على ضبط قواعد اللعبة الخطرة، سواء داخل المملكة أو خارجها، وهي في قرار إرسال جنودها للسعودية، تقول بوضوح أن الهيبة لا تكفي –وحدها- الآن لفرض ما تريد، أو لإقناع القوى الإقليمية أن هناك خطوطًا حمر، لا يستطيع أحد تجاوزها، فالصعود الأميركي بدأ يتحول إلى هبوط مساوم مستمر، والحلف الفاعل في المنطقة اليوم، والمكون من روسيا-إيران وفي الخلفية الصين، لا يجعل من القرار الأميركي واقعًا، كما كان طوال عقود.
التراجع الأميركي الاقتصادي أمام التنين الصيني، كما حدث في أزمة "هواوي"، لفت الأنظار، وكان لا بد أن يلفتها، إلى عالم جديد يأخذ طريقة بروية وقوة إلى الوجود، مستندًا لناتج محلي صيني تجاوز –بمسافة واسعة- نظيره الأميركي، وطبقًا لـ"تعادل القوة الشرائية" وفقًا لتقديرات البنك الدولي 2019، يبلغ الناتج المحلى الإجمالي الأميركي 21 ترليون دولار في 2019. أما الصين فيبلغ ناتجها 27 تريليون دولار، وصندوق النقد الدولي في تقريره لشهر نيسان/إبريل 2019، أوضح أن حجم التجارة العالمي سوف يتراجع من 3.6 إلى 3.3%، ومعدل النمو الأميركي سيتراجع من 2.9 إلى 2.2% فقط، نتيجة للحرب التجارية التي يشنها "ترمب"، بينما النمو في الناتج الإجمالي الصيني سيتراجع من 6.6 إلى 6.3% فقط، وبالطبع يبقى أعلى كثيرًا من نظيره الأميركي.
وبإضافة الوجود العسكري الروسي بالمنطقة، والقدرة الإيرانية المتزايدة على الردع، بل والخشية من رد عسكري مذهل على أي عدوان عليها، يمكن ببساطة رصد أفول النسر الأميركي، بالطبع لن تتراجع واشنطن أو تسكن، لكن زمن الحركة الواسعة غير المحدودة انتهى، وفي مواجهات "ترامب" الأخيرة، مع الصين أو إيران، يتبدى تآكل القدرة الأميركية جليًا، بغير حاجة لتحليلات أو شرح، واشنطن لم تعد قادرة عسكريًا على الحسم، ولا تستطيع أيضًا أن تهز الأسواق، حتى لو حاولت فعلًا.
الغريب أن العالم كله يرى ويدرك، لكن الأسرة المالكة السعودية تتعامى عن الوقائع، وتصر على المضي في الركاب الأميركي، ومن ورائه الكيان الصهيوني كحليف جديد ظاهر، وهي لا تغامر فقط بالمستقبل، لكنها تخاصم تطلعات شعبها أولًا، وقبل أي شيء، وتعبر في تفكيرها عن أزمة واقعة، لا عن قوة مفترضة.