مبارك الفقيه- راصد الخليج-
حين كنت في زيارة إلى بيروت بعيد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار من العام 2000، قمت بجولة على المناطق الجنوبية المحرّرة مع مجموعة من الإعلاميين، ووصلت إلى محاذاة الحدود اللبنانية - الفلسطينية. يومذاك استحضرت، وأنا أراقب الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح خلف السياج الشائك، المقولة الإسرائيلية خلال اجتياح العام 1982، "سنحتلّ لبنان بفرقة موسيقية" و"نحن داخلون إلى لبنان في نزهة".. ضحكت وقلت في نفسي: "أين هي الفرقة الموسيقية الآن وقد تحوّلت إلى فلول جنود وعملاء تسابقوا إلى الفرار من الجحيم اللبناني؟"
بعد 18 عاماً من الاستنزاف البشري والعسكري والأمني والاقتصادي قرر الإسرائيليون الانسحاب من لبنان للحد من استمرار الخسائر، والأهداف التي وضعها المسؤولون في تل أبيب لم تجد طريقها إلى التحقّق، لا بل ساهم الاحتلال في نماء قوة عظمى اسمها "حزب الله" تتجرأ اليوم على إطلاق التهديدات والمبادرة إلى الفعل، واستطاعت تصدير هذه القدرة إلى أطراف أخرى داخل فلسطين المحتلّة لتضع إسرائيل بين فكّي كماشة، دون أن ننسى الجيب السوري في الجولان الذي بدأ يشكّل حالة قلق لدى الأوساط العسكرية الإسرائيلية، وبات الإسرائيلي اليوم يحسب ألف حساب قبل الخوض في أي مغامرة عسكرية خارج حدود فلسطين.
ما أشبه الواقع اللبناني بالواقع الذي تعيشه السعودية اليوم في الجحيم اليمني، ويبدو أن الحليف الإماراتي تلقّى الدرس وأخذ العبر فقرر الانسحاب من الرمال المتحركة في اليمن، ولم يتأخر في التواصل مع الخصم الإيراني "المحتلّ للجزر الإماراتية الثلاث"، والعمل على استئناف الجهود لتمتين العلاقات وتطويرها، ليترك السعودية في عزلة سياسية وعسكرية، في حين تتحدث المؤشرات الميدانية عن أن الجبهة العسكرية المشتعلة في اليمن ستؤول إلى منحًى آخر بعد توالي انسحاب الأطراف المشاركة في التحالف، لتبقى الرياض وحدها تواجه العاصفة القادمة من الجنوب.
نأت أبو ظبي بنفسها مبكراً على وقع صدى أزيز المسيّرات الحوثية الذي تردّد في أجواء اجتماع حكّامها، وهي تتّجه إلى إزالة ما تبقى لها من نفوذ لدى الأطراف اليمنية في الجنوب بعدما تورّطت في معارك داخلية لا طائل منها سوى المزيد من الاستنزاف وتشويه صورتها لدى الرأي العام العالمي، واندفعت إلى الاتجاه المعاكس لتضمن هدوءاً واستقراراً ليست مستعدة أن تضحي به كرمى لعيون السعوديين، وفي الجهة المقابلة وصلت الأمور في الرياض إلى مستوى القلق الحرج مع ارتفاع منسوب التهديد الحوثي المباشر للمواقع الحيوية في السعودية، بدءاً من الحدود المحاذية لليمن وصولاً إلى أقصى الشمال الغربي في ينبع وأقصى الشمال الشرقي في الدمام.
سبق أن هدّد الحوثيون في الفترة القصيرة الماضية من أن عدم اللجوء إلى الحل السلمي - السياسي لأزمة اليمن قد يأخذ الأمور إلى مزيد من التدهور الأمني وتصعيد الهجمات على أهداف في داخل الامارات والسعودية، ولكن التسوية في الحديدة لم تسرِ على باقي المحاور، وفائض القوة الذي أوحت به الإمارات بإمكانية "اجتثاث الجرثومة الحوثية" انعكست توريطاً مباشراً للسعودية فتصلّبت في موقفها بتعميم التسويات.. هكذا حصل، لينفذ الحوثيون تهديداتهم بمسيّراتهم الطائرة وصواريخهم الجديدة والمتطوّرة التي نبشوها من مخابئها المدفونة.
وبعيداً عن تحليل توازن القوى العسكرية والمعادلات الاستراتيجية يكفي أن نعرف أن مدى صاروخ "بركان 3" الباليستي الأخير، الذي أطلقه الحوثيون على القاعدة العسكرية في الدمام، يتراوح ما بين 1300 و 1800 كلم، وهذا يعني أن معظم المواقع العسكرية في السعودية ضمن شعاع هذه المدى هي عرضة للاستهداف، بما فيها التجمعات العسكرية الأمريكية وكذلك عواصم الدول التي تشارك في التحالف، وهنا محور التهديد الأساس، فالمسافة بين صنعاء ودبي تبلغ 1579كلم، والدمام 1371 كلم، والخرطوم 1227 كلم، والرياض 1064 كلم، وأبو ظبي 1469 كلم، والمنامة 1383 كلم.
لا يمكن لأي عاقل أن يقلّل من خطورة الوضع الذي وصلت إليها معادلة النار في اليمن، لا سيما أن الحوثيين باتوا يتقنون اللعب على وتر التهديد المستمر ليضع السعودية في حالة القلق الحرج، فهم بصواريخهم ومسيّراتهم يطبّقون قاعدة "نقل القتال إلى أرض العدو"، لا سيما أن ما يقرب من أربع سنوات من الحرب والحصار في البر والبحر والجو لم يفلح في ضرب مكامن القوة لدى الحوثيين، بل دفعهم إلى ابتكار أساليب جديدة من المواجهة، حتى أنهم اليوم يمتلكون زمام المبادرة في التهديد والفعل، وأثبتوا أن لديهم القدرة على إشعال أكثر من معركة في أكثر من مكان في الوقت نفسه، فيرسلون مسيّراتهم إلى المنشآت الحيوية ويطلقون صواريخهم إلى المدن البعيدة ويشنّون الهجمات البرية على المواقع العسكرية في المناطق الحدودية.
استهدف صاروخ "بركان3" مدينة الدمام متجاوزاً كل محطات المراقبة والدفاع الجوي السعودية والأمريكية محلّقاً فوق المدن السعودية ومحطات التكرير ومصافي المياه والقواعد العسكرية في عسير والظهران والسيح والرياض وغيرها، وهي رسالة مباشرة من الحوثيين للرياض بأنهم يسيطرون على الأجواء السعودية، وبالتالي هم قادرون على إسقاط الصواريخ في باحة القصور الملكية وفي كل النقاط التي تشكّل مقتلاً فعلياً لكل منجزات العهد .. هناك من يراهن على حكمة ما في عاصمة القرار السعودي لوقف النزف وتلافي خطر الزحف الجوي الحوثي، وهناك من يتخوّف من اتجاه متعنّت يسكن في الرؤوس الحامية دون النظر إلى مصلحة المملكة، فكيف ستتصرّف الرياض حيال القلق الحرج الذي يسود قرارها الآن، هل تأخذ قرار المضي في الانتحار أم تركن إلى العقل وتجلس إلى طاولة المفاوضات؟ ولعلّ الخيار الأخير لا يزال متاحاً قبل أوان الصاروخ الحوثي التالي.