مبارك الفقيه- راصد الخليج-
أما وبعد أن أعلن دونالد ترامب وخليله بنيامين نتنياهو عن "صفقة القرن" من واشنطن .. فماذا بعد؟ وما هو الإعلان التالي؟ كل المؤشرات في البارومتر السياسي الأمريكي تفيد بأن واشنطن ماضية في تنفيذ أجندتها في ما يتعلق بالمنطقة، وكانت البادرة البارزة في هذا السياق نقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وتلتها مبادرات وخطوات عربية بلورت بعض معالم الخط المرسوم فانتقل نتنياهو إلى مسقط والتقى السلطان قابوس في زيارة تاريخية غير مسبوقة، وتخطّت هذه الزيارة سقف العلاقات السياسية والتنسيقات الأمنية بين إسرائيل ومعظم دول الخليج ولا سيما الإمارات والبحرين، دون أن نغفل الأنشطة التجارة والاقتصادية التي تنشط من وقت لآخر والحضور الإسرائيلي في المؤتمرات والمعارض التي تقام في دول الخليج، والتي بات اليوم بشكل معلن، وتبقى المملكة البلد الخليجي الوحيد الذي لم يجد حتى الآن الوقت المناسب لكشف المستور.
لا تخفي البحرين والإمارات وعمان علاقاتها مع إسرائيل في أكثر من مجال، وشكّلت مشاركة سفرائها في مؤتمر ترامب - نتنياهو في واشنطن رسالة واضحة للعرب، بأن المرحلة الراهنة وما سيليها باتت محاكة بنسيج مختلف وبحبكة جديدة، وعلى الرغم من أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار هذا الحضور صك براءة أو مظلة عربية تغطي "صفقة القرن"، إلا أنّها في واقع الأمر خطوة تمهيدية كسرت جدار ما يسمّى "المقاطعة العربية - الإسرائيلية"، ولكن المملكة - الأخ الأكبر لم تعترض على ذلك، بل هي في الحقيقة تدعم هذا التوجّه الذي ينسجم بالضرورة مع رؤية ولي العهد محمد بن سلمان في مشروع 2030، فهذه الرؤية الاقتصادية - السياسية تتطلّب مناخاً مؤاتياً وساحة هادئة لتحقيق المشاريع الإنمائية ليس فقط للسعودية بل لكل المنطقة، وصولاً إلى تحويلها إلى قبلة للاستثمارات العالمية.
لم تبخل المملكة في أي مجال لتحقيق الهدف، وبذلت الكثير من ماء الوجه المالي والسياسي والأمني والعسكري، وشرّعت أبوابها أمام الفاتح الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وألبسته العباءة العربية وقلّدته السيف العربي، وفتحت له خزائنها لينهل من ملياراتها، وأغدقت عليه بالهدايا النفيسة، وأطلقت إصلاحات اجتماعية واسعة استجابت لكل الانتقادات التي كان الغرب يوجهها للمجتمع السعودي المعروف بتشدّده حيال التقاليد والتشريعات الدينية، ولا سيّما بشأن حرية المرأة، وبدل أن تمتلئ السجون السعودية بالمجرمين أصبحت تعجّ بالدعاة وأئمة المساجد المتشدّدين المخالفين لسياسة الانفتاح الجديدة، ولن يتورّع العهد عن القيام بأي خطوة قادمة في سبيل وضع القدم على سكّة العصر المقبل، حتى لو استلزم ذلك الاعتراف بـ "دولة إسرائيل" وإرساء تسوية شاملة في المنطقة، ومن هنا يمكن تفسير الموقف السعودي المعتدل من "صفقة القرن".
من نافل القول إن المملكة كانت ولا تزال تلتزم القضايا العادلة للشعوب العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وأحقّية الشعب الفلسطيني في الحصول على دولته المستقلّة، واعتمدت في ذلك سياسة واقعية وعاقلة باعتبار أن العرب لا يمكن لهم مواجهة القوى الغربية وأمريكا التي تقف داعمة لإسرائيل، ولا بد لذلك من موقف متوازن لا يضيّع الحقوق الفلسطينية، حتى مع اختزالها إلى حدها الأدنى في "صفقة القرن"، ولكن المشكلة اليوم في أن النهج الذي رسمته الرياض منذ العام 1967 والذي يقود إلى الرضى بتقاسم أرض فلسطين بين اليهود والعرب، وفق معادلة الدولتين، أصبح اليوم مصادراً من قبل بعض الدول الخليجية التي نمت على هامش الكيان السعودي، وبدأت تتصرّف وكأنها صاحبة الأمر والفصل، لا بل إنها تبادر إلى حصد ما زرعته المملكة بأموالها وتضحياتها، وفي طليعة هذه الدول الإمارات والبحرين وسلطنة عمان.
ربّ قائل إن السعودية هي التي تدفع بهذه الدول إلى صدارة الإعلام لتمهيد الطريق أمام الإعلان النهائي الجامع في ما يتّصل بالموقف العربي من قضية فلسطين، وأن ما يجري من تطبيع صريح بينها وبين إسرائيل هو مجرد بروفة سياسية لكسر حالة المقاطعة، فهذه الدول تبقى بطبيعة الحال والتاريخ والجغرافيا منضوية تحت العباءة السعودية مهما تفرّدت بقراراتها في العلن، خصوصاً أن الرياض تسعى مع واشنطن لتظهير الحل الشامل في المستقبل القريب، خصوصاً بعد أن يضمن ترامب ولاية جديدة في البيت الأبيض بما يضمن استمرارية تطبيق المشروع التسووي في المنطقة، إلا أن هناك ما يشي بواقع مختلف قد تصبح المملكة معه على هامش السياق، كمن يتكلّف من جيبه لتشييد بناء ثم لا يجد فيه شقة ليسكن فيها.
لا شك في أن الأمير ولي العهد يهدف من خلال مشروعه الثوري الطموح إلى نقل السعودية إلى مرتبة لا تتدنّى فيها عن مراتب الدول المتقدّمة والمتطوّرة، وهو المعروف بعلاقته المتشنّجة مع الوسط الديني الذي أطبق على مقاليد السلطة في المملكة لعهود طويلة سابقة، ومن المؤكد أن الملك سلمان يدعمه في ذلك، وبالتالي لم تعد الخشية الآن، بعد القضاء على الجماعات المتشدّدة، من تخريب هذا المشروع من الداخل، بقدر ما هي متأتية من الأشقاء والجيران، وما الإرباك الحاصل على جبهة اليمن، على المستوى السياسي في الفريق الواحد والتقاتل الداخلي والانسحابات الميدانية، إلا دليل من الأدلّة على جنوح الإمارات نحو خيارات منفردة تأخذ فيها السبق نحو حصد النتائج لمصلحتها، معتمدة على نفوذ السفير الإماراتي يوسف العتيبة في أروقة القرار الأمريكي من جهة، وعلى الكره المتجذّر للسعودية لدى الكثير من المسؤولين الأمريكيين السابقين والحاليين.
تبقى المراهنة الآن على وفاء ترامب بالاستمرار في سياسته تجاه الرياض، فالمملكة تواجه اليوم الكثير من الجبهات المضادّة لها داخلياً وخارجياً وفي الساحة العربية والإسلامية، وهي على الرغم من أنها تتمهّل في إعلان موقف صريح من الملفات الحسّاسة في المنطقة، إلا أنها ستكون مطالبة في يوم ما بحسم هذا الموقف، وهي مستعدّة لإفراغ خزائنها المالية أكثر فأكثر في رهان على الاستثمار السياسي - المالي الكبير في المرحلة القريبة المقبلة، إلا أنها لا يمكن أن تقبل أن ينعم الآخرون بما أنفقته وتدفع لوحدها الثمن.