مبارك الفقيه- راصد الخليج-
لا تختلف المملكة السعودية عن غيرها من الدول في العالم في سياق تعرّضها لمخاطر جائحة الكورونا التي تضرب مفاصل الكرة الأرضية، وتهدّد بزعزعة ركائز أنظمتها السياسية ونظمها الإجتماعية واستقرارها المالي والاقتصادي، ولعلّ السعودية الطرف الأكثر حساسية من غيرها من دول المنطقة إزاء تأثّرها بما يجري على وجه البسيطة، فهي ليست دولة محلّية على مستوى الموقع والتأثير، وليست معزولة عن المعادلات الدولية التي دخلت في زمن الكورونا ضمن المسارات الحرجة على أكثر من صعيد، ولا سيما في الدول التي ترتبط بها أو تشترك معها الرياض في منظومة الاستقرار العام، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول المركزية في القارة الأوروبية العجوز.
ثمّة من تحدّث قبل سنوات عن مسار دراماتيكي يقود إلى انهيار ممالك الخليج، وأشهرهم أستاذ مادة التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج كريستوفر ديفيدسون، الذي تحدث في كتابه "ما بعد الشيوخ" عام 2013، عن ضغوطات داخلية وخارجية بدأت تتشكّل آنذاك تأثّراً بمجريات "الربيع العربي" وتتهدّد العقد الاجتماعي في المنطقة، ولكن ديفيدسون لم يتنبّأ بأن ينشأ تهديد أكبر يساهم بقوة في تفعيل هذا الضغوطات تأثّراً بحرب عالمية ثالثة تدور رحاها اليوم داخل كل بلد في العالم، ويهدّد بانفراط عقد التحالفات الدولية، لتصبح هذه الدول كانتونات منغلقة على نفسها، وتجهد للحفاظ على ديمومة عنصرها البشري من جهة، وقوامها المالي والاقتصادي من جهة ثانية.
لم يوفر الفايروس أفراد العائلة الحاكمة، وفق صحيفة "نيويورك تايمز"، التي كشفت إصابة نحو 150 أميراً وأميرة بالوباء، ومن ضمنهم أمير الرياض فيصل الذي أُدخل إلى غرفة العناية المركّزة، فضلاً عن عزل الملك سلمان وولي العهد محمد نفسيهما في مكانين مختلفين، في ظل حالة تأهب للجسم الطبي لاستقبال المزيد من أفراد البلاط الملكي وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء البلاد، وها هي المملكة أوصدت أبوابها على نفسها، كما غالبية دول العالم، بعد أن بدأت أعداد الإصابات والوفيّات بوباء الكورونا تتضاعف بشكل مضطرد، ما فرض استنفاراً طبياً واجتماعياً شاملاً، وإغلاق الحدود ووقف أنشطة الموانئ الجوية والبرية والبحرية، وإخلاءً الطرقات والأماكن العامة، ووقف عمل المؤسسات والمرافق الحيوية على اختلاف أحجامها وأنواعها ومجالاتها، في ظل ترجيح حقيقي بوقف الحج هذا العام، مما يضاعف الضغوطات ويهدّد بإيصال البلاد إلى شفا اقتصادي وفوضى شاملة.
قد يقرأ البعض في التوصيف السابق مبالغة وتكبيراً لحجم الخطر، ولكن نظرة سريعة إلى التحدّيات التي تواجه المملكة في ظل هذا الوضع ستضع الأمور في نصابها، فقد أعلنت الرياض مبدئياً عن حزمة تدابير اقتصادية تبلغ نحو 32 مليار دولار للحدّ من تداعيات هبوط أسعار النفط وتفشي فيروس كورونا في البلاد، ويأتي هذا بالتوازي مع تخفيض يزيد على 13 مليار دولار في موازنة العام الحالي للحدّ من أثر الهبوط الكبير في أسعار النفط، وهذا ما يزيد سقف الدين العام إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي، أي ما يوازي 100 مليار ريال (نحو 27 مليار دولار) من إجمالي الاقتراض هذا العام. والكل يعلم أن المملكة تعاني من عجز مالي يزداد سنوياً بشكل كبير منذ انحدار أسعار النفط عام 2014، فما بالكم مع انخفاض سعر برميل النفط إلى أدنى من النصف مع توقف حركة التجارة العالمية، وفشل الدول الكبرى في لجم السُعار النفطي بين الرياض وموسكو؟!
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالسعودية اليوم تبدو وكأنها تقف لوحدها في مواجهة التحدّيات المصيرية، مع انشغال الولايات المتحدة في معالجة أزمة الكورونا التي وضعتها في مقدّمة الدول الموبوءة، وتؤدي يوماً بعد يوم إلى تعميق الأزمة الداخلية في الإدارة الأمريكية مع نشوء تناقضات وانشقاقات داخل البيت الواحد، وتخبّط واضح في معالجة تفشي الوباء في الولايات الرئيسية التي بدأت تجد نفسها معزولة عن النسيج الاتحادي الأمريكي، كما هي الحال في النسيج الاتحادي الأوروبي، أضف إلى ذلك بروز إرهاصات حرب أمريكية مباشرة - سياسية واقتصادية حتى الآن – مع الصين، وهنا يبرز السؤال عن مصير المشروع الاستراتيجي الذي أعلنه ولي العهد محمد بن سلمان لنقل السعودية إلى الجيل الجديد من الدول المتحضّرة، وما هو مصير مشروع "نيوم" و"رؤية 2030" اللذين اهتّزا يوماً ما بفعل صواريخ حوثية ضربت شركة "أرامكو" المتعثّرة؟ وما هو الشكل الجديد الذي ستأخذه المشاريع التنموية الداخلية التي خصّصت لها الحكومة موازنات ضخمة وجعلتها في مقدّمة أولوياتها هذا العام؟
ولا يمكننا إغفال سعي ولي العهد في الفترة الماضية إلى "تنظيف" البلاط الملكي من المعارضين له، ومن الشخصيات التي رأى أنها تقف حجر عثرة أمام تنفيذ توجهاته المستقبلية الواعدة، وهي خطوات كانت ضرورية بالنسبة له للتمهيد أمام استلام سلس للحكم في المملكة، وبتغطية ومباركة من الملك نفسه ودعم مباشر وشخصي من الرئيس دونالد ترامب، ولكن الأمير الشاب يبدو الآن واقفاً عند مفترق طرق، فلا البلاط الخاوي والفارغ من سكّانه مؤهلاً للنشاط نتيجة عزلته بسبب الكورونا، ولا النفط بات عنصراً رئيسياً يراهن عليه في تثبيت حكمه، ولا ترامب قادراً على الاهتمام بحليفه المكروه غربياً، وحتى في داخل أروقة البيت الأبيض، فيما العالم كلّه اليوم يعاني من إنكماش اقتصادي وبطالة عارمة تضرب الدول الكبرى الحائرة في مستقبلها هي نفسها.. إنها التحدّيات المصيرية للسعودية في زمن الكورونا.. وما بعد الكورونا، وأكثر المتفائلين لا يستطيع توقّع ملامح صورة الغد مع تتالي سقوط أحجار الدومينو، فكيف باستشراف مستقبل باتت ميزاته تتغيّر وتتطوّر مع كل إصابة يسجّلها عدّاد الإصابات والوفيات بمرض الطاعون الجديد؟!