(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)
لم تكد طائرة "العال" الإسرائيلية تقلع من مدرج المطار الخاص المطلّ على البحر الأحمر في مدينة "نيوم" حتى رنّ هاتف رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو المنتشي سروراً على متنها.. كان على الخط الآخر الرئيس الأمريكي المهزوم انتخابياً دونالد ترامب مهنّئاً صديقه بـ "الإنجاز المذهل" الذي حقّقه.. أنهى نتنياهو الإتصال وتبادل نظرات الرضا مع رفيق زيارته رئيس الموساد يوسي كوهين، فقد اطمأن هذا الأخير أن جهود التطبيع التي بذلها مع العرب أثمرت إتمام المهمّة على أكمل وجه حتى الآن؛ ولم تكد الطائرة تحطّ في مطار بن غوريون حتى أصبح الخبر حديث وكالات الأنباء العالمية: "نتنياهو التقى سرّاً بولي العهد السعودي محمد بن سلمان يوم الأحد في مدينة نيوم في رحلة دامت خمس ساعات".
هو خبر صادم في الظاهر بلا شكّ، ولكنه متوقّع في أي وقت بعد سلسلة اتفاقات نجحت الإدارة الأمريكية منذ شهر آب / أغسطس الماضي، في الدفع باتجاه توقيعها بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والخليجية على وجه الخصوص، حيث كانت الإمارات السبّاقة في كسر القطيعة الهشّة بين إسرائيل وما تبقّى من العرب الممانعين.. يومذاك وصف نتنياهو الاتفاق بأنه "يوم تاريخي"، وسرعان ما التحقت بها المنامة والسودان خفيةً، بانتظار خطوة الأخ (السعودي) الأكبر.
ساعتان قضاهما نتنياهو وكوهين في محادثات مع ابن سلمان برعاية وحضور وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تركّزت على نقطتين أساسيتين: تطبيع العلاقات ومواجهة التهديد الإيراني؛ بحيب ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مستشارين سعوديين؛ ولئن كانت النقطة الثانية محسومة التوجّه والقرار لدى المملكة وولي العهد منذ زمن، إلا أنه كان لا بد من حسم النقطة الأولى في أسرع وقت ممكن، وهذا الاستعجال في إعلان الحسم بات مطلوباً بشدّة من قبل الأطراف الثلاثة قبل تسلّم جوزف بايدن مقاليد الرئاسة الأمريكية في 20 من كانون الثاني/ يناير من العام المقبل.
ولكن ما الذي دفع الرياض وواشنطن لاستعجال إعلان اتفاق التطبيع مع إسرائيل؟! معظم المؤشرات والتحليلات والتسريبات توقّعت أن يتم الإعلان عن هذا الاتفاق، كنتيجة طبيعية للسياق الذي رسمته واشنطن للمنطقة العربية والخليجية في ظل سياسة ترامب المتشدّدة في الإنحياز لإسرائيل، ورجّحت توقيت الإعلان عنه بعد فوزه بولاية ثانية في رئاسة الولايات المتحدة وفق ما كان يأمل، على أن تقدّمه المملكة له كهديّة شخصية تمهّد لفتح عهد جديد في المنطقة، وتدشيناً لسلوك أمريكي جديد يكرّس الزعامة العربية للسعودية وشراكتها مع الغرب، فـ"الولايات المتحدة والعالم بحاجة للمملكة وقدراتها الاستراتيجية لحماية جزء حيوي من العالم".
وهذه الحاجة، وفق ما صرّح به السفير الأمريكي لدى الرياض جون أبي زيد؛ تتمثّل "بالنفط السعودي في الإقتصاد العالمي، والتنوّع الإقتصادي السعودي لمصلحة الإقتصاد الخليجي"، وفي المقابل تحتاج السعودية إلى الولايات المتحدة - وتالياً إسرائيل - لضمان استمرار الحصار الشامل على إيران وصولاً إلى الحدّ نهائياً من "التهديد الذي تشكّله على المصالح والمشاريع الأمريكية والإسرائيلية والخليجية"، ومن الطبيعي أن تكون الرياض شريكة في أي مشروع أمريكي - إسرائيلي يضمن تحقيق هذا الهدف، ويتبعها في ذلك باقي الدول الخليجية التي سبق أن وقعت، أو التي ستوقّع اتفاق تطبيع مع إسرائيل.
وفي هذا السياق، يقول دبلوماسيون سعوديون إن "الرياض منفتحة على العلاقة مع الإدارة الأمريكية أيّاً كان رئيسها، فإن العلاقات كانت ولا تزال مبنية على أسس استراتيجية لا تختلف برحيل جمهوري ومجيء ديمقراطي، وبالتالي فإن أي تطوّر في هذه العلاقة من شأنه أن يعود بالنفع على مصلحة المملكة، وبالتالي فنحن معنيون بأن نؤكد للإدارة الجديدة بأن سياسة الرياض ثابتة، خصوصاً أن السعودية لم ترفض إقامة علاقات (علنية) مع إسرائيل طالما أنها تأتي في إطار تسوية شاملة للمنطقة".
ويمكن فهم هذا القول بأنه يصبّ في خانة رسائل تطمين لواشنطن بغية حفظ موقع المملكة من الإهتزاز في السياسة الأمريكية بشكل عام من جهة، وللقول لترامب بأن الرياض جاهزة، بل مستعجلة، للرعاية والتمويل والمشاركة في أي مشروع تقدم عليه إدارته في الوقت المتبقي له في سدّة الحكم، ولكن بشرط أن يؤدي إلى تقوية حضور المملكة وتعزيز دورها في المنطقة على حساب الجار الإيراني اللدود، ولا سيما في ما يتعلّق بالملف النووي.
وعلى المقلب الآخر فإن إسرائيل ستكون رابحة رابحة في كل الحالات، فالعلاقات مع مملكة قوّية وغنية إنجاز تاريخي يقود إلى إزالة أي عقبات أمام التوسّع الإسرائيلي في المنطقة، ويسهم في القضاء على "محور الممانعة" الذي يؤرق إسرائيل ابتداءاً من اليمن مروراً بإيران والعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان وفلسطين، ولذا لم يتمهّل نتنياهو المأزوم سياسياً في الداخل الإسرائيلي حتى يعلن تحقيق الاختراق الأكبر في جدار المقاطعة، وتوظيف هذا الاختراق في تقوية موقعه المتهالك، فضلاً عمّا لذلك من أثر كبير على انهيار باقي المداميك العربية، التي لا تزال تنتظر الجرأة السانحة للبوح بمكنونات التطبيع الخفي.
صحيح أن وزير الخارجية فيصل بن فرحان نفى في تغريدة عبر تويتر "التقارير الصحفية عن الإجتماع المزعوم بين ولي العهد ومسؤولين إسرائيليين.. والمسؤولون الذين حضروا كانوا فقط سعوديين وأمريكيين".. وصحيح أن المطلوب أن نصدّق فرحان ونكذّب من وما عداه، إلا أن التأكيدات الإسرائيلية الحاسمة المتواترة والمتعدّدة تضع المسألة في خانة الإحتمال الممكن، فضلاً عن أننا اعتدنا بيانات النفي التي غالباً ما تأتي في مقام الإثبات، ولا شيء الآن يدعو للشك في حصول هذا اللقاء، فلطالما حصلت لقاءات بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، ولكن هذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها الإعلان عنها بهذا النمط من التأكيد، فضلاً عن إعلان وزارة الخارجية الأميركية أن "اللقاء مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في نيوم اليوم كان مثمرا"، وتأكيد بومبيو صراحة بأن "هناك دولاً عربية أخرى ستنضم لاتفاقيات السلام مع إسرائيل.. والإدارة الأميركية شكّلت تحالفاً للتعامل مع إيران ضمن استراتيجيتها في الشرق الأوسط"؛ فهل كان بومبيو يقصد المملكة السعودية؟! بالتأكيد نعم.