(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)
في العام 1990، عقدت الدول الصناعية السبع الكبرى، أهم اجتماع في تاريخها الممتد على الإطلاق، بعاصمة الضباب والمؤامرات "لندن"، تمخض عنه ما ستكون شرارة البدء لعملية تفكك الاتحاد السوفيتي رسميًا، ونهائيًا.
كان البند الوحيد على أجندة رئيس الاتحاد السوفيتي "الأخير"، ميخائيل جورباتشوف، هو الحصول على عشرات المليارات من الدولارات كتسهيلات ائتمانية لبلاده من القوى الغربية، لتمويل الموازنة التي أفلست بالفعل وقتذاك.
لكن الغرب الذي دفع جورباتشوف إلى تبني "البيريسترويكا والغلاسنوست" وتطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية تركت مواطني الدولة العظمى الثانية، وفي قلب موسكو العاصمة، لا يجدون الطعام، رفض أن يستثمر أمواله في الرئيس السوفيتي المنهار.
بات الرجل خيارًا مستنفذًا، منحهم كل ما يستطيع، ولم يعد طرفًا مطلوبًا في المعادلة الآنية، تحوّل إلى طرف طالب، ولا يملك مقابل ما يريد، بعد أن دفع مقدمًا وبلا ثمن، وفورًا وضع الرهان الغربي على الرجل القوي الجديد، بوريس يلتسن، الرئيس الروسي وقتها.
محمد بن سلمان، في أزمته الحالية لا يبدو أكثر من نسخة جديدة، بالغة السوء والتدني، عن جورباتشوف، يحاول مقايضة كل ما تبقى له ولبلاده من مصادر قوة بالرضا الأميركي، وبالضوء الأخضر إلى السلطة والحكم.
ما كانت تملكه السعودية لتكون الطرف الأهم بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وللغرب كله، في منطقة الخليج والشرق الأوسط، كان الفوائض المالية الكبيرة، ثم النفوذ الديني، وأخيرًا الوزن السياسي بمنطقة الخليج، وكلها عوامل ظلّت قادرة على وضع الرياض في مقام الحليف الأهم لواشنطن.
الغريب أن خطوة واحدة في الاتجاه الخاطئ، نسفت تمامًا عوامل القوة السعودية، وتركت الحكم كله في العراء.. حرب اليمن.
أكلت الحرب فوائض الأموال، وتركت الخزانة السعودية تعتمد على الديون الخارجية التي تتسارع بوتيرة مروعة، ثم إنها ضربت النفوذ الديني للمملكة بشكل لم تفلح أي محاولة سابقة في فعله، وأخيرًا هناك من حيث الركام والدمار قوة جديدة تنبعث من الجنوب، أثبتت وجودها وامتلاكها لعنصر القدرة، في فضاء الجزيرة العربية الواسع.
إضافة إلى التبديد والاستنزاف الهائل للأرصدة السعودية، المادية والمعنوية، فإن رهان بن سلمان الكامل على ترمب جعل من صعود جو بايدن إلى قمة هرم السلطة بالولايات المتحدة كابوسًا مروعًا بالنسبة له، وللمملكة ككل.
استثمر الملك وولي عهده في دونالد ترمب كل شيء، كان هو رجل الساعة القادر على منح سلطة هائلة تضمن الانتقال الهادئ للحكم، ولجم اعتراض المؤسسات الأميركية على إبعاد أي وريث آخر، الهدف الأول حققه ترمب، وهو إبعاد الرجل القوي محمد بن نايف، ووضع بن سلمان على الطريق المباشر لوراثة العرش السعودي، والهدف الثاني سيبقى بعيدَا جدًا، وهو ضمان هذا الانتقال، وربما حمايته إن لزم الأمر، وهو ما لم يعد بالإمكان التأكد منه بعد الآن، مع رئيس لا يخفي أنه يريد مناخًا هادئًا في المنطقة.
المملكة –كانت- بالنسبة لصانع القرار الغربي طرف مطلوب، ولعل أكثر الأحاديث مصداقية في هذا الشأن هو حديث بن سلمان نفسه، خلال زيارته لواشنطن، وقال فيه نصًا: "إن المملكة ساعدت الولايات المتحدة على مواجهة الشيوعية والعناصر التي رفضتها في الشرق الأوسط، وقفنا ضد الخميني وعبدالناصر، وواجهنا الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ومنعنا توغل الشيوعية في الشرق الأوسط".
الآن، والآن فقط، يريد محمد بن سلمان أن يتقاضى ثمن ما دفع مقدمًا، ونسى المعادلة الأميركية التي تتعامل مع الحلفاء والأصدقاء، إذا كنت تريد فعليك أن تمتلك الثمن المناسب، أو فالرهان جاهز ليوضع على شخصية جديدة قادمة من الظلال.