(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)
يُقال إنّ خير البَدايات النّهايات، ومن الآخر: ما هي أهداف أبو ظبي من استغلالها لملف اليمن؟ إلى أيّ حدّ تبلغ أطماع الإمارات في الخارطة اليمنية؟ إلى متى سيستمر محمد بن زايد في امتطاء ظهر السعودية ويحصد ما يزرعه محمد بن سلمان؟ لماذا لا تُحرّك المملكة ساكناً حيال الخديعة الإماراتية الكبرى ومتى ستتحرّك لقطع الطريق أمام التوسّع الإماراتي في المنطقة على حساب السعودية؟ أسئلة كثيرة وكبيرة لم تنشأ من فراغ، ولا تُعبّر عن مجرّد رأي صحافي أو تحليل مراقب، بل هي ترجمة واقعية لمجريات ميدانية تتراكم منذ بَدء الحرب في اليمن قبل ست سنوات، وطوال تلك الفترة كانت أبو ظبي تلعب في الحديقة الخلفية للرّياض، مستفيدة من غضّ الطّرف السعودي عن تجاوزات محمد بن زايد المتمادية، دون مراعاة سيادة القرار السعودي في الشّأن اليمني.
منذ أن أعلنت المملكة السعودية انطلاق "عاصفة الحزم" على رأس التّحالف العربي - الدولي عام 2015، والتي جنّدت فيها كلّ طاقاتها البشرية والمالية والعسكرية ووظّفت تحالفاتها العربية والإقليمية والدولية لمواجهة الحوثيين في حرب اليمن، كانت دولة الإمارات تُقحم نفسها في الميدان، وتتسلّل إلى مكامن وتفاصيل الأزمة تحت مظلّة "الشراكة والتّضامن العربي الخليجي"، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت تتكشّف خيوط اللّعبة، ويُماط اللّثام عن حقيقة الأهداف، فلم يكن التورّط الإماراتي في الوحول اليمنية كرمى لعيون السعوديين، وليس انتصاراً للحق العربي ووحدة الدول في منطقة الخليج، بل جاء استغلالاً للأوضاع من أجل توسيع خارطة التمدّد الإماراتي على أرض اليمن، وبناء هيكل نظام عربي - خليجي جديد يسقط وصاية المملكة ويقود أبو ظبي إلى التسيّد في المنطقة.
لم يأتِ الحراك الإماراتي نتيجة تخطيط وتنفيذ فردي، بل بشراكة وإدارة كاملة مع "الحليف الإسرائيلي" الجديد، فقد أخذت أبو ظبي السّبق في الإندفاع باتّجاه التّطبيع الكامل مع إسرائيل، وفي فتح أجوائها وأرضها ومُدنها ومؤسّساتها التجارية وغير التجارية أمام اليهود؛ ولم يخلُ هذا الإتجاه من شراكة عميقة وكاملة في المجالات العسكرية والأمنية، وهذا الأمر ليس خافياً على أحد، ويصرّح به المسؤولون الإماراتيون أنفسهم بدون تردّد، وهم اليوم ينكبّون على تحقيق اندماج اجتماعي وثقافي كامل بما يدعم مسار السلام العربي - الإسرائيلي، وهذا ما استدعى تعديل المناهج التعليمية ولا سيّما تلك المتعلّقة بالدين والتاريخ والجغرافيا، كما تفخر الإمارات بتنصيب نفسها الدولة العربية الأولى المحارِبة للإرهاب، وطبيعي أن يقود هذا الأمر إلى تنسيق أمني شامل مع واشنطن وتل أبيب، ما دفع وزير الدّفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس إلى أن يُطلق عليها لقب "أسبرطة الصغيرة".
إسبرطة هذه، التي تتحدّث عنها الأسطورة بأنّها المدينة التي صمدت في وجه المدّ الفارسي في سالف الأزمان، لا تنطبق على واقع الحال، فأبو ظبي التي مدّت جسورها المفتوحة مع إسرائيل تبقي على مغازلتها لإيران سياسياً واقتصادياً، ولم تقطع علاقاتها السياسية والتجارية مع طهران، وتغضّ الطرف عن النّزاع معها بشأن الجزر الإماراتية الثلاث، وسارعت إلى تفعيل عمل سفارتها في دمشق في خطوة منفردة شاذة عن الإجماع العربي - الخليجي حيال الموقف من النظام في سوريا، وبادرت إلى توزيع المساعدات على الشّعب اللّبناني في ظلّ المحنة الاقتصادية التي تعصف بهذا البلد الشقيق، وتستقبل الشخصيات اللّبنانية التي أقفلت الرياض الأبواب في وجهها، سعياً للعب دور متقدّم في الفسيفساء اللبنانية، وتنظّم حملات ترويج عربية ودولية تقدّم الإمارات على أنّها قبلة العالم الجديد، وتحظى بالبركة الأمريكية، مهما كانت هوية الإدارة الجديدة في واشنطن، وكلّ ذلك تحت مرأى مباشر من قيادة المملكة دون حراك.
هذا هو الواقع، ففيما كانت الرياض تتحضّر للدخول في عصر التطوّر والحداثة على مستوى الهوية والثقافة والاجتماع والنّظم الداخلية، وتشحذ مقوّماتها الشاملة باتجاه التمدّن والعصرنة والدخول في عالم الدول المتقدّمة، اندلعت حرب اليمن لتبدأ مسيرة الإستنزاف المؤلم، أمّا أبو ظبي فانشغلت منذ اليوم الأول للحرب بجمع مكاسبها، وأمعنت في تعميق الأزمة عبر إنشاء وتمويل وتسليح مجموعات عسكرية بهدف السيطرة على مدينة عدن أوّلاً، والتّمدّد في مناطق الجنوب وعلى الأطراف، وإجراء عمليات قضم منظّم للمدن والقرى اليمنية، وصولاً إلى بناء قواعد استراتيجية لها، ولا سيّما في موانئ المكلا والشحر والمخا والمناطق المحاذية لباب المندب، ومن أبرز ما حقّقته من أهدافها السيطرة على جزيرة ميون وإنشاء مطار فيها لاستخدامه في عمليات ميدانية في المستقبل، ولم تسقط من حساباتها مشاركة السعودية في السيطرة على جزيرة سقطرى عبر إنشاء قاعدة عسكرية فيه، لما لهذه الجزيرة من أهمية حيوية بما تؤمّنه من سيطرة مباشرة على البحر الأحمر وخليج عدن، فضلاً عن التحكّم بخطوط الملاحة الدولية والتجارة النفطية بين دول الخليج وسائر دول العالم، وتبقى العين الإماراتية مركّزة على حقول النفط والغاز في حضرموت ومأرب وشبوة كهدف قادم.
جرى كلّ هذا تحت أنظار قيادة المملكة التي تحمّلت وحدها الدّمار والخراب في منشآتها ومرافقها الحيوية بفعل صواريخ الحوثيين ومسيّراتهم المفخّخة، فيما ينعم حكام الإمارات بقصورهم ذات القبب الزجاجية، وفي المقابل تبدو السعودية معزولة عن كلّ هذا المحيط، ولم تفلح حتى الآن في أن تحجز موعداً للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولم يتلقّ ولي العهد محمد بن سلمان منه أي إشارة رضا، ولو حتّى باتّصال هاتفي، كما لم تصل لحدّ الآن إلى مشروع تفاهم سياسي للخروج من المستنقع اليمني، وهذا واحد من الأثمان التي دفعتها الرياض نتيجة تمسّكها بالحلقة الأضعف المتمثّلة بحليفها اليمني عبد ربه منصور هادي، أمّا أبو ظبي فتمضي في مخطّطها لتقسيم اليمن ووضع يدها على المرافق الأساسية التي تضمن خطوط ملاحتها التجارية نحو أوروبا وأميركا الشمالية والتّغلغل في أفريقيا، ويفتح الباب أمامها لتصبح قوة عظمى في قطاع الطاقة العالمي.
ما سبق هو بعض ممّا تخطّط له الإمارات بهدف إزاحة المملكة من خارطة التأثير والقيادة، فقد عرف محمد بن زايد كيف ينسج شبكة علاقات مؤثّرة في دوائر القرار الأمريكي، وشرّع أبواب المنطقة أمام التوغّل الإسرائيلي الشامل، ويقدّم الإمارات المتطوّرة على أنّها الأداة الفاعلة في يد الدول العظمى، والشرطي النشط للولايات المتّحدة في المنطقة، والدولة التي تمتلك كلّ المقوّمات الإقتصادية والعسكرية والأمنية التي تخوّلها لأن تكون القاعدة المتقدّمة لقوى الغرب في موازاة قوى الشرق، فإلى متى سينتظر محمد بن سلمان ليتحرّك أمام الإجتياح الإماراتي الشامل؟ وهل التلويح بخياره الإتجاه نحو الشرق كان مجرّد مناورة إعلامية من أجل استدراج واشنطن لتفتح كوّة في جدار الإغلاق الأمريكي؟ إلى متى ستبقى السعودية غارقة في الرّمال اليمنية فيما تستمر الإمارات بتوسّعها ويشتدّ ساعد حلفاء إيران بالنّفوذ فيها؟ هل تستفيق السعودية على اليمن مقسّماً بين الإمارات والحوثيين وتخرج من كلّ الملفّات بخفّي حنين؟ آن أوان التّحرّك وإلّا فعلى المملكة السلام.