(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)

عندما تولّى مهاتير محمد رئاسة الوزراء في ماليزيا تحدّث في خطابه الأوّل عن الإصلاح والنّهوض بالإقتصاد والتّنمية ونشر التّعليم وتعزيز قطاع الصحة واعتماد معايير التّطوير والحداثة وبناء الإنسان.. وعندما انتهى من خطبته سأله أحدهم: وماذا عن الدين والإسلام؟ فقال مهاتير: "لقد كنت أتحدّث عن الإسلام". وغني عن الذّكر ما حقّقه هذا الرجل، لتصبح ماليزيا واحدة من أقوى الدول الآسيوية في الإقتصاد والتنمية، وصولاً إلى مطالبته بضرورة اعتماد عملة إسلامية موّحدة في مواجهة العملات الكبرى، ولكن دول الخليج أحبطت مسعاه بدعوى ارتباطها اقتصادياً بالغرب واعتمادها الدولار في معاملاتها التّجارية والمالية.

في السياق ذاته، يأتي عمران خان رئيس الباكستان، ليبرَع في قيادة بلاده نحو طور عالمي كما برع في لعبة الكريكيت، وهو الذي تعلّم في مدارس بريطانية وتخصّص في جامعات بريطانية وكتب في صحف بريطانية، ولكنّه يعارض بشراسة سياسة بريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكية، ولا سيّما تجاه باكستان.

عشرون عاماً قضاها خان معارضاً للحكم في باكستان، حتّى استطاع عام 2018 أن يتبوّأ رئاسة الحكومة، وسرعان ما قصد إيران ليلتقي المرشد خامنئي في العام 2019، ويؤكّد أنّ "باكستان لم ولن تشارك في أي تحالف ضدّ إيران"، وانسحب هذا الموقف على باقي الملفّات المتعلّقة بهذا المحور، رافضاً الإعتراف بإسرائيل "حتى إعطاء الفلسطينيين حقّهم بتسوية عادلة"، وقال: "ليعترف من يعترف بإسرائيل، إلّا أنّ باكستان لا يمكنها الإعتراف بها مطلقاً"، وكان واضحاً في إعلان وقوف بلاده إلى جانب غزّة وفلسطين في مواجهة العدوان الإسرائيلي خلال معركة "سيف القدس".

لم يكن هذا التطوّر الدراماتيكي في الباكستان موقع ترحيب لدى بعض رؤساء الدول العربية والإسلامية الذين طالما تعرّضوا لانتقادات خان، ووصفه لهم بأنّهم "عرائس متحرّكة.. وكلاب لدى جورج بوش"، فضلاً عن رفضه القاطع أن تستضيف بلاده قواعد أميركية لاستخدامها في عمليات عبر الحدود بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، كما رفض دعوة الرياض للإنضمام إلى التّحالف العسكري ضدّ الحوثيين في حرب اليمن، بل بادر إلى الإنفتاح على دول تعتبرها السعودية معادية مثل تركيا وماليزيا وقطر وإيران، ممّا أثار حفيظتها على خلفية اعتقادها بأنّ الحراك الباكستاني هذا قد يكون مقدّمة لإيجاد زعامة بديلة عنها للعالم الإسلامي السنّي، وما عزّز هذا الإعتقاد أنّ خان يقود حملة في الغرب لمكافحة الإسلاموفوبيا، ودعوته إلى معاقبة من يُسيء للإسلام وفق المعايير نفسها لمن يسيء للمحرقة اليهودية (الهولوكوست).

ولعلّ إبرام الإتفاق الإيراني الصيني الأخير عمّق هواجس الرّياض من الطموحات الباكستانية، فهو يجعل من إسلام أباد نقطة محورية في سياق مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وهذا يعني في الحسابات السعودية شراكة عملاقة إيرانية – باكستانية بقيادة الصين تقوّض المشروع الحلم 2030، الذي يأمل محمد بن سلمان أن يجعل من السعودية محطة استراتيجيّة إقليميّة وعالميّة.

استعراض شخصية عمران خان لا تهدف إلى التّسويق للرجل، فهو قد وضع نفسه في خانة استفزاز مباشر يدفع إلى مقارنته ببعض حكّام العرب ولا سيّما في الإمارات التي بالغت في الهرولة والإنبطاح الكامل أمام إسرائيل، مع العلم أنّه لم يكن مفاجئاً توقيع اتّفاق التّطبيع الشامل الذي جرى في 15 سبتمبر/أيلول 2020، بل جاء تتويجاً لعلاقات بدأت منذ العام 1994، منذ لقاء السفير الإسرائيلي في ألمانيا جيرمي إيسخاروف، بجمال السويدي المستشار السياسي آنذاك لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وإنشاء مركز "الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية" في برلين، الذي كان بمثابة مركز لتنسيق العلاقات بين الجانبين.

إنّ تسارع خطوات التّطبيع الإماراتي – الإسرائيلي يعني بكل وضوح أنّ ما يجري هو عبارة عن جدول تنفيذي لأجندة متّفق عليها سلفاً وآن أوان تنفيذها، فإنّ حجم التّغلغل الإسرائيلي في الإمارات لم يقف عند حدود تكبيلها باتّفاقات في مجالات الطاقة والاقتصاد وقطاعات المصارف وتجارة الذّهب والماس والموانئ والنّقل والسياحة المتبادلة، بل وصلت إلى حدّ تعديل جذري في المناهج التربوية – التعليمية، ولا سيّما في المرحلة الإعدادية تركز على زرع بذور التّعايش السلمي بين اليهود والعرب، بدعوى الإتّفاق الإبراهيمي.

إنّ ما تستفيد إسرائيل منه بموجب اتّفاقات التّطبيع يفوق بعشرات المرات ما يمكن للإمارات أن تستفيد منه، ويسري ذلك على باقي الدول الخليجية الغنية بموارد الطاقة والنّفط، إلّا أنّ من شأن هذه الإتّفاقات أن تجعل الإمارات تشعر بفائض القوة بما يمكّنها من الهيمنة على القرار الخليجي والعربي، وتحويلها إلى ثكنة عسكرية أمريكية – إسرائيلية في قلب الوطن العربي، واستخدامها كقاعدة انطلاق للعمليات العسكرية كما حدث في ليبيا واليمن وسوريا.. ولاحقاً إيران، حتّى لو كان ذلك على حساب خسارتها لسيادتها على أراضيها، ورهن استقلالها وقرارها للغرب، مُقابل تمكين قادتها من البقاء على رأس الحكم.

أمّا بالنسبة للبحرين فإنّ معظم المحلّلين المؤيّدين للتطبيع وأكثرهم تفاؤلاً يقول إنّ الإتفاق مع إسرائيل لا يعود على المملكة بأي نفع، نظراً لفقدانها – في المنظور الإسرائيلي- القدرة على لعب أي دور في الخارطة الخليجية، فضلاً عن صغر حجمها وضعف مواردها وارتباطها الإقتصادي والأمني مع السعودية وبعدها الجغرافي عن إسرائيل، بينما تعتبر الأخيرة أن هذا الإتّفاق يفتح لها الباب للوصول إلى عتبة الرياض، وتسخير البحرين كمحطّة وسيطة تلعب دوراً عملياً للوصول إلى الأخ الأكبر.

بالمناسبة، يروي وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، المعروف بتأييده المطلق لإسرائيل والصهيونية، ومهندس الإنقلابات السياسية في المنطقة خلال سبعينيات القرن الماضي، أنّ قرار الرئيس المصري أنور السادات المفاجئ بنيّته زيارة تل أبيب لم يُربك القيادتين الأمريكية والإسرائيلية، ولكن الذي أربكهما بالفعل أنّه لم يطلب شيئاً في مقابل ذلك!!