(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)
تصمّم الذّهنية العربية، قديمًا وحديثًا، على حكمة مفادها أنّ العاقل من اتّعظ بغيره، وهي حروف قليلة تحمل في طيّاتها الكثير من التّشجيع على التّوجه نحو دراسة التاريخ ووعيه، لا بصفته حكايات الماضي، بل مؤشّرات ودلائل المستقبل كلّه.
حاضرنا العربي يؤكّد أنّ الفاعلين الحقيقيين في واقع اليوم هو من قرأ التاريخ، وفهِم درسه البليغ على أفضل نحوٍ ممكن، من مخطّطي الحدود الحالية بين الدول العربية، من توماس إدوارد لورنس، طالب التاريخ في جامعة أكسفورد، والذي أصبح لورنس العرب، والخاتون جيرترود بيل، عالمة الآثار والتاريخ البريطانية واضعة حدود العراق الحديث.
لكن لا يبدو أنّ الأنظمة الحاكمة في أغلب الدول العربية تدرك أو تعي أهميّة هذا الدّرس بعد، فترى الجميع يكرّر سقطات الماضي، بشكلٍ عجائبي، قد يبدو مقصودًا، بينما تدفع حماقاتهم إلى استذكار ما قاله رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرشل، عن التاريخ: "أدرس التاريخ، أدرس التاريخ، فهناك تكمن أسرار الحكم".
أكثر من غيرها، تبدو المملكة العربية السعودية، بقيادة الملك سلمان، وولي عهده، كبلد في أزمة، يقودها رجل في محنة، بمواجهة ملفّات عديدة ساخنة، لا يفيدها التأجيل ولا تجدي معها الحلول التي تحفظ للبلد بقايا كرامة، فضلًا عن هيبة كانت لها طوال عقود مضت، فإذا هي ممزّقة في وقتٍ تحتاج فيه لعبور أخطر لحظة في تاريخها منذ تأسيسها.
الأزمة السعودية، وباختصار غير مخِلّ، إنّها بلد تلاشت قدرته على التّأثير، وتضاءلت قدرته على أن يكون فاعلًا في أي ملف.
خلال الأيّام القليلة الماضية، ومع إعلان الهجوم اليمني الأحدث على المملكة، أو ما اصطلح بتسميته عملية "توازن الرّدع السابعة"، لتدكّ السعودية بالصواريخ، وتُضيء ليلها، وتمسح الأوهام من رؤوس من تمنّوا النّصر السريع على شعب عربي جار وشقيق، بشكلٍ نهائي، رغم الحرب المستمرّة والتي دخلت عامها السابع بدون فائدة ترجى.
تنوّع بنك أهداف الهجمة الصاروخية الجديدة، من رأس تنورة بالدّمام في الشمال الشرقي، إلى نجران وجيزان وصولًا لجدّة في الغرب والجنوب الغربي من المملكة، لتمثّل أكبر بنك أهداف لعملية واحدة من هذا النّوع، تطال قلب المملكة، وكالعادة لم تسعف وسائل الدّفاع الجوي في مواجهة القصف الصاروخي المركّز، وانتشرت مقاطع الفيديو والصور لتكشف حجم دمار مذهل في العمق تمامًا.
لا يجمع بين كلّ المناطق المستهدفة سوى أنّها تقع تمامًا في قلب المملكة النّفطي، وتغذّي أوردة وشرايين الدورة الدموية للعملاق أرامكو، عنوان النّفط السعودي ومفتاح الثراء والقدرة، لتضاعف متاعب الشركة التي فشلت المملكة في طرحها للإكتتاب قبل عامين فقط.
الأخطر في الهجمة الجديدة أنّها لم تكن الأولى ضدّ أهم هدف سعودي، وبالطبع من الخيال أو الوهم أن يظنّ أحد أنّها ستكون الأخيرة، أدرك اليمني الآن أين تكمُن نقطة المقتل في السعودية، وبات على قناعة تامّة إنّه إن أراد إنهاء الحرب فعليه تكبيد الشركة السعودية أضخم خسارة ممكنة، فهو من ناحية يستنزف الاقتصاد السعودي، ثمّ يشلّ تمامًا من قدرات خصمه، إذ بات الدّفاع عن أرامكو وخطوطها ومحطّات تخزينها أولوية أولى، قبل التّفكير في أي تدخّل عسكري باليمن.
بالطبع الهجوم الجديد لا يقارن بالهجوم المفاجئ والصدمة الواسعة التي أحدثها الإستهداف المروّع لمحطّتي بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019، والتي سبّبت هزّة عالمية في أسعار النّفط، ولا تزال المملكة تكافح لتجاوز آثارها حتى اليوم، لكن الهجمات المتكرّرة على منشآت أرامكو ومحطّات الضّخ والتّخزين الهائلة التابعة لها، لا يزال درسًا غائبًا عن أذهان صانع القرار السعودي.
الجميع بات يُدرك، ولو متأخرين، أنّ الحرب على اليمن عبث كامل، من اقتصاد عاجز إلى تحالف عربي قام مفككًا بالأصل، ثمّ حكومة هادي التي تمارس سلطتها من غرفها في فنادق الرياض، ولا يجرؤ مسؤول منها على الولوج إلى اليمن، إلّا الشّخص الذي اتّخذ قرار الحرب نفسه.
في بعض الأوقات يكون درس التاريخ الأبرز هو الإنسحاب، وليس التّقدم، وبالتأكيد سيظلّ درسًا صعبًا، لكنّه الأفضل من التّمادي في قرارات كارثية ثبت بالقطع واليقين خطأها وتكلفتها الفادحة، سواء على الحاضر أو المستقبل.
العناوين التي انطلقت منها السعودية للحرب على اليمن، سقطت كلّها، ثمّ تأكّد سقوطها مع الهجمات الصاروخية المتتالية التي تضرب قلب المملكة بعنف، وتكسر الباقي من هيبتها، وتلجم كلّ أدوارها في المنطقة، بل وتنزع شرعية نظام الحكم القادم، فلا شرعية لنظام فشل في الدّفاع عن أراضيه على الإطلاق.