خاص الموقع

التّجربة السعودية بين المُعجزة والدّجل 2/2

في 2021/10/22

(فؤاد السحيباني/ راصد الخليج)

يعتقد أكثر السياسيين في عالمنا العربي، ويتعاملوا مع الأرقام وكأنها جزر منعزلة في خضَم بحر أوسع مع الأكاذيب، والعقل الذي يتعامل بهذه الصورة المستهترة مع الأرقام، بحاجة أوّلًا إلى مراجعة قدراته، قبل أن يفكّر في مستقبل دول وشعوب، وناس من لحم ودم، يحلمون ويعيشون، ويريدون من الحياة أن تتّسع لآمالهم.

بهذه الفكرة البائسة، والمقيتة أيضًا، خرج مؤتمر ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان الأخير للإعلان إطلاق ما دعاها "الإستراتيجية الوطنية للإستثمار"، والتي اعتبرها ولي العهد أهم الخطط الرئيسية لتحقيق "رؤية 2030"، التي يراهن عليها لقيادة المجتمع السعودي إلى عصر ما بعد النّفط، وتنويع الاقتصاد والإعتماد على الصّناعة، ضمن عناوين أخرى كثيرة تلمع ببريق زائف.

27 تريليون ريال هو رقم الإستثمارات المقرّر ضخّه في شرايين ومفاصل الاقتصاد السعودي، من اليوم وحتى عام 2030 الموعود، طبقًا لكلام وأرقام وحسابات ولي العهد، والمُستهدف كما ورد على لسانه، رفع الإستثمارات المحليّة إلى 1.7 تريليون ريال/سنويًا في 2030، والأهم الدّخول ضمن قائمة أكبر 15 اقتصادًا على مستوى العام بعد 9 سنوات وشهرين من الآن.

وطبقًا لما ورد في وكالة الأنباء الرّسمية "واس"، فإنّه من المقرّر توفير هذا المبلغ الخرافي، فعلًا لا قولًا، على النّحو التالي: 5 تريليونات ريال من مبادرات مشروع برنامج "شريك"، و3 تريليونات ريال من صندوق الإستثمارات العامّة، و4 تريليونات ريال من استثمارات الشّركات المخصّصة ضمن الإستراتيجية الوطنية للإستثمار، و10 تريليونات ريال من الميزانية العامّة للدولة خلال العشر سنوات المقبلة، و5 تريليونات ريال من الإنفاق الإستهلاكي الخاص.

الغريب أنّ ولي العهد، وهو في الوقت ذاته رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتّنمية، لم يراجع أرقامه جيدًا قبل أن يطرحها بهذا الشّكل المتفاخر، وخاصّة ما يتعلّق بجانب التّمويل المفترض من جانب واحد، جانب الموازنة على سبيل المثال، إذ لا سبل للتّأكد من أرقام التّمويل المفترضة من صندوق الإستثمارات العامّة، غير الخاضع للرّقابة أو الإعلان.

تعاني الموازنة السعودية من عجز مزمن، وخلال العام الحالي 2021، توقّعت أرقام وزارة المالية الرّسمية عجزًا يبلغ 4.9%، قبل أن يخرج بيان لاحق يبشر بتراجع العجز إلى 2.7% فقط، والأغرب أنّ العام المالي المقبل 2022، سيشهد هو الآخر تسجيل عجز مبدئي يقدر بـ 1.6%، طبقًا لبيانات وزارة المالية الرّسمية أيضًا، التي قالت إنّ توقّعاتها للإيرادات ستبلغ 905 مليار ريال، بينما ستصل المصروفات إلى أكثر من 955 مليار ريال.

أرقام الديون العامّة في المملكة هي الأخرى سترتفع في العام المالي المقبل، طبقًا لتصريحات سابقة لوزير المالية محمد الجدعان، إذ أنّ توقّع الوزير أن يواصل إجمالي الدين العام ارتفاعه في العام المالي المقبل 2022، ليصل إلى 989 مليار ريال، بنسبة تبلغ 31.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعًا من النسبة الحالية والتي تصل إلى 30.2% في 2021.

هذه الأرقام الرسمية لا تترك مجالًا للشّك أو القول بأي واجب آخر أو سابق على إعادة النّظر فيها، والبَدء من جديد في وضع إطار تنظيمي يحكم التّصرفات المالية المنفلتة، بهدف تقليص العجز المزمن، والمستمر سنويًا منذ العام 2015، بالإضافة إلى منح أولوية قصوى لبرامج الإعانة الاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع، إذا كان المراد هو الإصلاح حقًا.

أمّا ما يقال ويخرج بين الحين والآخر عن إنجاز اقتصادي ما، أو اتّجاه لتغيير البنية الاقتصادية للمملكة، فهو أمر متعلّق أولًا ببناء الإنسان، ولم تخرج تجربة بشرية في أي وقت أو أي عصر عن هذا المستهدف، فالإنسان هو القادر على حمل وطنه وبناء الطريق الجديد، لن يفعل المال وحده ذلك، ولن تفعله الرؤى الحالمة، التي لا تعرف للواقع منفذًا.

ختامًا.. إنّ رياح التّطور التي وفدت إلى المنطقة العربية، خلال العقود الثلاثة الماضية، لم تنجح العقول في هضمها تمامًا بعد، أو الإستفادة منها في دفع السفينة خطوة واحدة للأمام، وبقي القديم الراسخ عاجزًا عن استكمال الطريق، مهما كانت التكاليف، ولا يستطيع الجديد الوافد فرض وجوده كأمر واقع بالكامل، بين التّقليد البالي والحديث المعقّد، العلاقات القبلية والسلطوية المتشابكة خيوطها، وبين أفكار برّاقة عن الحرية والمعرفة والتّفاعلات الخلّاقة بين أطراف المجتمعات وقواها الحيّة، بين هذا وذاك، تحتاج كلّ دولة عربية إلى وقفة، وإلى فسحة من الوقت لإعمال العقل في السؤال الأوّل والبديهي: ما هو المستقبل الذي نريده بالضبط؟.

لقراءة الجزء الأول من "التجربة السعودية بين المعجزة والدجل" إضغط هنا