(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
تجتهد الدول والأنظمة في خلق مساحات للتوفيق بين السياسة والأخلاق، لتغطية صراعاتها ومصالحها، وحتّى حروبها، ومنذ العصور القديمة كانت مهمّة التّجميل تُناط بأصحاب القدرات الخاصّة على صناعة الوهم، وتسويقه للجماهير، من كهنة الفرعون في مصر القديمة إلى رهبان كنيسة روما في العصور الوسطى، وصولًا إلى عصرنا الحالي، الذي أصبحت فيه الحروب النّفسية موازية للحرب الحقيقية وملازمة لها.
الجميع يريد هذا الغطاء الأخلاقي، يستر به مطالباته ويخفي تحته إدعاءاته، سترًا لما يريد أن يحصل عليه، وقيمة سامية يرفع عليها أعلامه ومبادئ يتحرّك خلفها للوصول إلى ما يريد، وقبل كلّ شيء بالطبع يمتلك القوة اللازمة للحصول على ما يبتغيه، لكنّ العالم في كلّ وقت لا يفضّل دعم الجزّار، ولا أحد يودّ رؤية الغابة والعيش في ظلالها.
في الحرب فإنّ المنتصر أخلاقيًا يسهّل عليه أن يحصل على الدّعم والحلفاء، ويغطي مطامعه بغلالة رقيقة من الكذب، يحوّلها إلى حقّ في نظر الغير، وبدءاً من الحرب العالمية الثانية، كان الألماني المتألّق جوزيف جوبلز واحدًا من أكثر المؤثّرين في أحداثها، وتولّى عن طريق المذياع والصحف تجنيد موارد الأمّة الألمانية وحشد كلّ مصادر قوّتها حتى اليوم الأخير للحرب، في ظاهرة هي الأبرز على الإطلاق بهذا المضمار.
الثّقة والمزيد من الثقة والثقة دائمًا، كانت الشّعار المرفوع للإعلام النازي، ثقة مطلقة في النصر تستبعد أي حديث عن الهزيمة أو التراجع، وتستبدل الهزائم باتّهامات الخيانة والتّخاذل، وتهوّن من شأن العدو وتقلّل من قدره وقوته، كانت سبيل هتلر الأوّل للاستمرار في السيطرة المطلقة والكاملة على ألمانيا طوال سنوات الحرب، ودفعه في أيامها الأخيرة بالأطفال للدّفاع عن برلين.
لكن الأزمة الحقيقية في هذا الخطاب الزاعق الواثق، هو إنّه ما أن ينكشف زيفَه أو كذبه، فأنّ البناء كلّه ينهار، نزيف الثّقة متى بدأ لا تعود العلاقة بين النظام الحاكم وجماهيره كما كانت أبدًا، وفي أوقات الحروب فالأمر أكثر صعوبة، لا يملك أحد رفاهية الوقت أو الرّهان من جديد على نظام كاذب، والأكثر رعبًا، إنّه حين تتمزّق الغلالات الرومانسية لدى الجماهير، والتي تلهيهم بالمجد والنصر، فإنّ المجتمع ذاته يتفكّك مهما كان العدو ومهما كان الظرف صعبًا.
أمّا في عالمنا العربي، فقد استوردنا ظاهر الفكرة دون جوهرها، وصنعت الأنظمة العربية طوال سنوات ما بعد رحيل الاستعمار، أكثر الأمثلة فشلًا في مجال الحروب النفسية، من المصري الشهير أحمد سعيد، مذيع صوت العرب، الذي كان يملأ الأثير بضجيج إسقاط عشرات ومئات الطائرات الصهيونية يوم 5 يونيو 1967، ليفيق متابعوه على كارثة النكسة، بكلّ آثارها وتداعياتها، والمستمرة بمراراتها حتى اليوم.
وأعاد ديكتاتور العراق صدام حسين بعث الفكرة ذاتها، وأضفى عليها ملامحه الكثير، بداية من سمات جنون العظمة لديه، إلى الانفصال المروّع عن الواقع، ومخاصمة الحقيقة، حتّى لكإنه يعيش في عالم آخر، لا يراه أحد غيره، عالم يهزم فيه بوش وكلينتون، ويمزّق فيه الجيش الأميركي، ويحصد حبّ الشعب ويحمل فوق رأسه أكاليل الغار من أمّته العربية كلّها.
كان محمد سعيد الصحّاف، وزير إعلام صدام، هو أكثر الأمثلة العربية بشاعة وفشلًا، رجل قاد الجهد الإعلامي العراقي خلال الغزو الأميركي في 2003، كانت القضية واضحة تمامًا، دولة كبرى تعتمد القوة سلاحًا وحيدًا، ولا تريد إلّا القتل والتدمير والانتقام من العراق، وإخراج هذا البلد تمامًا من التاريخ، والحجج التي ساقها جورج بوش الابن نفسه وإدارته كانت سخيفة، ولا تنطلي على أحد، وأوّلها الاتهامات الكاذبة بامتلاك أسلحة الدّمار الشامل.
لكن الصحّاف رفع راية التّحدي، وكان يظهر على شاشات التلفاز قبل 19 عامًا، بالبزّة العسكرية والشعر المصبوغ، يزبد ويرعد، ويهدّد العلوج الأميركيين بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأنّ قوّة العراق الحقيقية ستظهر في الوقت المناسب، ليمنح من كانوا يصدقون صدام حسين أملًا كاذبًا بالنّصر، وليس فقط الصمود في وجه أميركا.
وبعد أيام قليلة من انطلاق الغزو، ووسط بيانات الصحّاف اليومية وتعداده المثير للخسائر الأميركية المذهلة، أفاق الجميع على حقيقة وصول الجيش الأميركي إلى مطار بغداد، وخرج الصحّاف يبشر الجميع بإبادة كلّ القوات الأميركية التي وطأت أرض مطار العاصمة العراقية.
ومع وضوح الحقيقة، بعد ساعات قليلة، وانكشاف السيطرة الأميركية على المطار، ووصول الدبابات الأميركية لمشارف العاصمة، إذ بالبناء القائم على الأكاذيب ينهار فجأة، ومرّة واحدة، فتبدّدت إرادة القتال لدى الجيش العراقي الذي تبخّر، ولم يعد للصمود في وجه الغزو أي معنى بعد ذهاب الوهم وحلول ساعة الحقيقة للنظام الكاذب الساقط.
حرب اليمن التي أعلنتها المملكة، مصحوبة بوعود الانتصار السريع والساحق، ووقف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مقدمًا التوعّد بالنّصر في أسابيع قليلة، طالت حتى كادت تبلغ السنوات السبع، بلا قدرة على تحقيق أي إنجاز حقيقي على الأرض، وبدلًا من المراجعة والوقف العاجل لإطلاق النار، بحثًا عن حلول لم يعد السلاح السعودي قادرًا عليها، ولا بات المجتمع صلبًا أمام تكاليفها، لجأ الأمير إلى الحيلة القديمة، الكهنة، لكن بالمظهر الحداثي الذي يفضله.
خرج العميد الركن تركي المالكي، المتحدّث الرسمي باسم قوات التحالف العربي، بمقطع فيديو قال إنّه يوثّق عمليات تهريب الصواريخ البالستية من إيران إلى اليمن، وتجميعها في ميناء الحديدة اليمني قبل استخدامها في قصف الأراضي السعودية، معتبرًا المقطع إنجاز هام لقوات التحالف ولجهاز الاستخبارات السعودي، وانتصار تحرزه السعودية أمام الحوثيين.
وبعد دقائق من نشر المقطع المصوّر بواسطة المالكي، اتّضح أنّ إنجاز الاستخبارات والنصر السعودي، ليس إلّا جزء من فيلم أميركي وثائقي، صور في العراق منذ سنوات طويلة، ليخسر التحالف وقبله تخسر المملكة الحرب الإعلامية بجدارة لا تحسد عليها.
ما حدث بالفعل كارثي، وفوق خسارة الداخل بالنسبة للتحالف، فإنّ شعوبًا عربية أخرى ترى حرب اليمن المستمرّة، وربّما بعضها كان يثق في السعودية، لكنّه الآن يراجع نفسه وموقفه وقناعاته، أهدت السعودية الفرصة كاملة لكلّ أعدائها في اليمن –وفي غيرها- لوصمها بالخداع والتّزييف، وفقدت المنبر الفضائي لتوصيل صوتها وصورتها، وهذه هي النّكسة بعينها، نكسة لا تنتظر سوى مشهد النّهاية الحزين.