(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
في شهر كانون الثاني / يناير 1492م، سقطت غرناطة، آخر وأبهى قلاع الإسلام في الأندلس، سلّمها آخر ملوك الطّوائف أبو عبد الله الصغير لجيوش قشتالة وأراجون بدون قتال، ورحل إلى مزبلة التاريخ تاركًا أهل المدينة العامرة لمصيرهم الغامض، معتمدًا فقط على عهد أمان من الملكين الكاثوليكيين إيزابيلا وفرديناند، بعدم المساس بعقيدة المسلمين أو إجبارهم على التنصّر وتركهم في مدينتهم.
كانت النتيجة كارثية بالطّبع، كمثل كلّ حقّ بدون قوّة تسنده وتدافع عنه، فقد استمرّت المذابح الأبشع في التاريخ الإنساني لقرون تالية عديدة، تحت راية محاكم التّفتيش، من قتل واسترقاق وتنصير ومصادرة الأموال، بل وانتزاع الأطفال من العائلات المسلمة لتسليمهم إلى عائلات كاثوليكية تتولّى تربيتهم على الإيمان المسيحي، ومن يرفض فقد كان الحرق على الخازوق مصير عشرات الآلاف من المسلمين، أو حتّى من دارت حولهم الشبهات.
المأساة في الحكاية هي أنّ آخر أمير مسلم في الأندلس ظلّ لعشر سنوات كاملة في حرب أهلية طاحنة مع عمّه، كان خلالها كلّ الأمراء يعقدون الاتّفاقات ويقدّمون التّنازلات إلى الملوك الصليبيّن لاستجلاب المساعدة ضدّ إخوانهم، وحين قام جيش إيزابيلا وفرديناند الموحّد بالهجوم النّهائي على غرناطة، فإنّ المدينة عمليًا لم تكن تملك أيّة إمكانيّة للدّفاع أو البقاء.
أمّا الكارثة الحقيقيّة في حكاية سقوط غرناطة، هي أنّها متكرّرة عبر تاريخنا، أحداثها يتمّ استنساخها من قِبَل ملوك طوائف آخرين، لكن على الأرض العربية ذاتها، ولا يتعلّم أيّهم من المصير الملعون الذي لاقاه سلَفهم الصغير، أصبح شعار أمّتنا العربية في هذه الأيّام، والمرفوع عبر الإعلام الخليجي/الأميركي "نُعادي من يُصادقنا ونُصادق من يُعادينا"، في تجسيد حرفي لأوّل شروط السقوط، بل والخروج من التاريخ.
لا يمكن لأي عاقل المجادلة في أنّ أكثر المستفيدين من الأزمة الخليجيّة، والتي نشأت عن مقاطعة قطر واستمرّت طوال 3 سنوات، كانت كلّ من واشنطن وأنقرة، كلّ بحجمه وبقدره وبقدرته، كناتج مباشر لهذه الأزمة ضخّت كلّ من السعودية والإمارات فوائض ثرواتهما إلى الاقتصاد الأميركي في وقتٍ حرِج بالنّسبة للرئيس السابق دونالد ترامب، وبلغ الرّهان السعودي على الولايات المتّحدة مَداه، باستقبال ترامب في الرياض، ومنحه فوق كلّ ما حصل عليه، عقودًا بمبالغ وصلت إلى 480 مليار دولار، بحثًا عن رضاه وتأييده لولي العهد محمد بن سلمان.
وعلى الجانب الآخر كانت تركيا تتولّى دعم إمارة قطر، وأنشأت قاعدة عسكرية فور توافر معلومات عن نيّة السعودية للقيام بعمل ما ضدّ الدوحة، وحصد أردوغان على المقابل باستثمارات قطرية ضخمة، بلغت عشرات المليارات من الدولارات، ساعدت في تأجيل أزمة مستحكمة في هيكل الاقتصاد التركي.
لكن السعودية، وتحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، تفرّدت بما هو غير مسبوق لا في تاريخ المملكة أو التاريخ العربي، إذ تحرّك الأمير الراغب بشدّة في العرش لاستجلاب الأميركي، ووضعه طرفًا مباشرًا وأصيلًا في عملية تولية الحاكم المُقبل للمملكة العربية السعودية.
عقب قيامه بإبعاد ابن عمه محمد بن نايف، أراد ابن سلمان توصيل رسالته للداخل السعودي وللأسرة المالكة، إنّ خطواته نحو العرش السعودي تتمّ بمباركة أميركية، بالذّات من الرئيس السابق دونالد ترامب، سعيًا لفرض تغييراته غير المقبولة، وأضاف على قوّته التهديد بالغضب الأميركي لمن يقف ضدّ طموحاته.
لكن الأمير المغتر بقوّته، وبإرادة حليفه الأميركي، خلط كما هي عادته بين الولايات المتّحدة كقوّة عظمى لها مصالح مستمرّة في السعودية، وهي تسعى دائمًا لدعم من يضمن لها مصالحها، وبين سياسة مؤقتة لرئيس أميركي هو الآخر مؤقّت بمدّته، وولايته وسلطاته غير مطلقة بالطّبع، وحين خسر ترامب الانتخابات، كان ابن سلمان خاسرًا قبله الرّهان الكبير على الحليف الأقوى.
درس التاريخ البليغ يتجدّد، وهذه المرّة لم يتعلّم القادة، أو من يفترض بهم القيادة، الحروف الأولى من مأساة سقوط الأندلس، التي سقطت بعد 8 قرون من البهاء والإشعاع على أوروبا، نتيجة التّشرذم والتّقاتل، والنّوم في حضن العدو، ومخاصمة الناس أو محاولة السيطرة عليهم عبر تغييبهم وتخديرهم بالأوهام والاحتفالات الصّاخبة، وانغماس الحكام في مؤامرات القصور ودسائسها المَقيتة، في النّهاية لم يفلح أي نظام حكَمْ راهنَ على الخارج وابتعد عن شعبه، مهما بدا من إمكانيّات صعوده أو سرعته.