(مبارك الفقيه\راصد الخليج)
لم يكتفِ أشقّاؤنا في دولة الإمارات بأنّهم حيّدوا أنفسهم من المواجهة، وتركوا المملكة لوحدها تُواجه سياسة العزل والتنكّر، حين لبست الإدارة الأمريكية ثوباً جديداً بعد طرد دونالد ترامب من البيت الأبيض، لا بل اندفعوا إلى تمويل صحف وشبكات تلفزة ووسائل إعلام فضائيّة وإلكترونيّة إمعاناً في تشويه صورة المملكة لدى الرأي العام الغربي.
لم يكتفِ جيران التاريخ والجغرافيا بأنّهم انكفأوا في لحظة حرجة، ليتركوا قوّاتنا العسكرية تواجه حرب استنزاف ميدانيّة ونفسيّة في مستنقع الحرب اليمنيّة، لا بل ساهموا في إحباط مساعي الرياض لتثبيت الحكم في اليمن بتمويل ميليشيات أمعنت في ضرب الكيانات السياسيّة التي تدعمها المملكة، ولم تعُد بـ "عَمالقها" إلى النزال إلّا بعد خشيتها من سقوط مشروعها التّقسيمي في جنوب اليمن، فاندفعت بقوّاتها لتمنع سقوط شبوة في يدِ الحوثيين.
لم يكتفِ شركاء التّجارة والمصالح المالية مع المملكة بالسعي لاحتكار الصّفقات الدولية الكبرى متسلّحين بتأييد نصف أعضاء الكونغرس الأمريكي ومعظم زعماء أوروبا، الذين يتنعّمون بالعطايا الإماراتية والاستثمارات المالية الجاهزة في جزر المال والأعمال، بل وصلت أطماعهم إلى مدّ الأيادي إلى الجيب السعودي سعياً لحرمانِنا من موارد نفطيّة إضافيّة، وهي تعلم أنّ المملكة تُعاني من عجز متراكم في الميزانيّة العامّة للدولة لسنوات خلت.
لم يكتفِ رُفقاء السلاح السياسي بأن جعلوا المملكة مطيّة لهم، لكي تصل مضاربهم إلى سواحل البحر الأحمر، وينعم محمد بن زايد مع مضيفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في منتجعات شرم الشيخ، بل أصبحت أبو ظبي شريكة القاهرة والأردن في التّطبيع مع إسرائيل بدائرة علاقات شاملة وصلت إلى حدّ التّوأمة، أمّا نحن، فعلى الرّغم من أنّ مجاري مياه العلاقات سارية بلا أي عوائق بين الرياض وتل أبيب، إلّا أنّنا لا نجرؤ بعد على إعلان التطبيع بشكلٍ رسمي.
لم يكتفِ ندماء السّهر والسّمر في مُصادرة الدور السعودي في معظم العواصم العربية والغربية، بشكلٍ سافر تارةً وبشكلٍ مقنّع تارةً أُخرى، حتّى دخلوا إلى عمق المعاقل المؤثّرة للسعودية وفي مقدّمتها لبنان، ما اضّطر الرّياض إلى اتّباع سياسة الاندفاع غير المتوازن ورفع أسقف المواقف، فانفضّ الشركاء والأصدقاء وتصلّب الخصماء والأعداء، ولم يعُد أمام المملكة إلّا المضي قدماً كي لا يُسجّل علينا التراجع والانسحاب؛ وعلى الرّغم ممّا تُبديه الأطراف العربية لنا من مبايعة وتأييد وتبعيّة في العلن باعتبار المملكة "الأخ الأكبر"، إلّا أنّ الرّياض عملياً باتت شبه معزولة عن التّأثير في امتداد أفقها العربي.
ولعلّ أكثر ما يؤذي المملكة في النّفاق السياسي للإمارات هو في المزايدة علينا في المواقف، فسرعان ما اتّخذت أبو ظبي قراراً بمقاطعة بيروت بسحب سفيرها على غرار الرياض وغيرها من عواصم دول الخليج، إلّا أنّها سارعت في موازاة ذلك إلى تعبيد طريق الحجّ السياسي والأمني نحو طهران، ومدّت أيادي الصّداقة والتّعاون إلى دمشق، وتتنصّل في السرّ والعلن من مسؤوليتها عن الضّربات العسكرية التي نفّذتها قوات التّحالف على مناطق سيطرة الحوثيين.. نفاق ما بعدَه نفاق !!
تعلم الرّياض تماماً مدى رسوخ مكانتها في بيروت لدى المسؤولين في الحكومة اللبنانية وبعض الأحزاب على حدّ سواء، وهي لا تزال تمارس وِصايتها على معظم ألوان الطيف السياسي اللّبناني، بدءاً من زعيم القوات اللبنانيّة سمير جعجع مروراً بأرفع كرسي مسيحي في الشرق ممثلاً بالكاردينال بشارة الراعي، وصولاً إلى الشارع السنّي الذي يُدين بغالبية زعمائه وشرائحه المختلفة للمكرمات والعطايا السعودية منذ أوائل ستينيات القرن الماضي حتى اليوم، ولكن الرّياض تعلم أيضاً أنّ الإمارات تلعب في الحديقة الخلفية للمملكة سعياً لتثبيت موطئ قدم مؤثّر لها في لبنان، مستغلّة التطوّرات السياسية الراهنة في هذا البلد.
لا ننفي عداءنا التاريخي لحزب الله في لبنان، ولا ننفي ممارستنا الضغوط السياسية والحصار الاقتصادي رغم معرفتنا بالآثار الاجتماعية السلبية على الشعب اللبناني بكلّ مكوّناته، ولا ننفي أنّنا عاقبنا سعد الحريري ونُعاقبه بسبب مشاريعه التجارية الفاشلة في السعودية، وكذلك على سطحية تعاطيه السياسي مع الملفّات المفصليّة في لبنان والمنطقة، ولذلك قرّرنا محوه من الخارطة السياسية، دون أن نفرّط بالدور السنّي في البلد؛ ولكن الإمارات التي تفوّقت على السعودية بشراء الذّمم الإعلامية في لبنان، تمارس في الوقت الراهن لعبة خطرة تُساهم بشكلٍ فاعل في تشويه صورة المملكة أكثر، فقد سارعت إلى استغلال الاهتزاز، الذي تركه إعلان الحريري اعتزال العمل السياسي وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية اللبنانية، وفرط تيّار المستقبل الذي يتزعّمه، ودفعت بالإعلام اللبناني التابع لها إلى إبراز المواقف السلبيّة ضدّ المملكة، التي صدرت من شرذمة غير فاعلة في الوسط السنّي كردّة فعل على موقف الحريري، إلّا أنّ الأخطر في اللّعبة الإماراتية يتمثّل في توجّه العديد من الشخصيات السنّية للسير في ركب الحريري والعزوف عن المشاركة في الانتخابات، وهي مواقف اعتراضيّة لا يمكن تفسيرها إلّا بكونها موجّهة مباشرة للرياض.
لطالما شكّل لبنان معقلاً حيوياً للسعودية، ولكنّه الآن يقترب من أن يصبح محميّة إماراتية، ورهينة يتحكّم بها محمد بن زايد سياسياً وإعلامياً.. واقتصادياً، وعليه فلا يمكن غضّ الطّرف السعودي عن هذا التوغّل الإماراتي نحو شواطئ البحر المتوسط، فتصبح بذلك المملكة محاصرة بطوق صنعته بنفسها، وبات يشدّ عليها الخناق، ما لم تُبادر الرّياض إلى خطوات جريئة ومتقدّمة، وتطرح مشروع تسوية عربية – عربية شاملة، لا يموت الذئب فيها ولا يفنى الغنم.