(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
طفل وموقف عصيب ومجموعة من الصور التخيُّلية فقط، 3 عوامل كانت كفيلة بتوحّد أمّة يبلغ تعدادها السكّاني 400 مليون إنسان، بخلاف العالم، الذي تابع في ترقّب عملية إنقاذ الطفل المغربي ريان، والجهود التي بُذلت لاستعادته عقب ساعات طويلة، مرّت كأنّها دهور كاملة، القلوب كلّها ترقّ بالتّعاطف الصادق، وتلحّ بالدّعاء للنّجاة والسّلامة.
النّهاية التي جاءت خلاف التمنيّات لم تجلّل بالحزن قلوب الشعب المغربي وحدَه، لكنّها خلقت حالة من الحداد العربي العام، لقصة اعتبر كلّ منّا أنّه صاحب دور ما فيها، وكل منّا كذلك حصل على نصيبه من الحزن عقب الإعلان الرّسمي عن وفاة الطفل المسكين.
ما يعنينا، كعرب، في هذا الموقف كلّه، هو ما كشفته عن طبيعة واحدة تشدّنا إلى الخندق ذاته، في مواجهة الأزمة كان جزء من كلّ فرد فينا يتوجّع ويتألّم، ويتمنّى السلامة للصغير، ويُشفق على قلوب أهله وأقاربه في هذا الظّرف الدّقيق، وخلقت التّغطيّات الإخبارية على مدار الساعة اهتمامًا مضاعفًا بالقصّة الإنسانية، وما بدا فيها من تشابه بين أزمة الطفل المفقود في بئر سحيق، وبين شعوب بأكملها سقطت هي الأخرى، وتمنّت بصدق بالغ أن ينجو، ربما طمعًا في ضوء أمل خافت للجميع.
وجاء تعامل الحكومة المغربية مع الأزمة المفاجئة جيدًا إلى أبعد حدّ، من سماح بدخول القنوات التلفزيونيّة، وتقديم كامل الجهد لعملية إنقاذ الطفل، والشفافيّة في طرح التحديّات التي واجهت فرق الحفر والإنقاذ طوال أيام، ثمّ الإعلان الرّسمي عن الوفاة، وبدا أنّها –أي الحكومة- هي الرابح الأكبر من حصاد نجاح مبهر بأقل القليل من الجهد والإدارة.
في سلامة عملية إدارة الأزمة كانت الفرصة التي وحّدت الشارع خلف حكومته، وفي ترتيب الخطوات وتجنّب العصبيّة والقرارات الانفعاليّة، ضاع كلّ حديث عن إهمال أو مشاكل، ونجَحت المغرب في اختبارِها بالكامل، وتجدّد درس بليغ لمن قرأه، وهو أنّ الشعوب العربية قد تغفر للسياسي أخطائه، لكنّها لا تغفر عجزه أبدًا.
وفي خِضَم حكاية الطفل ريان كلّها، تبرز الأزمة السعودية، وتطفح إلى الذّهن فورًا، مع التِجاء المملكة الدائم إلى نوعية القرار المُنفعل الضّاغط، الذي يصدر دون أقلّ التفات لمصالح الغالبية السّاحقة من المواطنين، أو بالأساس لا يخرج معبّرًا عنهم، ويتناسى عامدًا أنّ أيّة حكومة –يُفترض أن- تمارس عملها وسط حشد من الظروف المتعاكسة، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وقبل كلّ شيء نفسيًا، وأنّ نجاحها يرتبط بحسن إدارتها لا بمدى قُدرتها على فرض هذه الإرادة.
في الجهد الجاري لإعادة تطوير بعض مناطق مكّة المكرمة، ارتكب مجلس الوزراء السعودي كلّ الخطايا الممكنة، بحيث يمكن اعتباره درس معاكس للنّجاح، من الاستناد الدائم مكاتب استشارية أجنبية لتطوير منطقة ذات طبيعة خاصّة، لا يفهمها إلّا من يدرك ويستشعر قيمتها، ثمّ تغييب أي حوار حقيقي مع سكان المناطق التي تُقرّر تطويرها، أو حتّى إخلائها، وهي تشمل 4500 مسكن، أي 4500 أسرة مهدّدة بالتّشريد والضّياع.
عملية إخلاء مواطن من سكنه، هي عملية مجرمة ومدانة طبقًا للأمم المتّحدة ولقانون حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، إذ تعتبر هذه المقرّرات أنّ الإخلاء القسري والإبعاد غير الطوعي للأشخاص من ديارهم وأراضيهم تشكّل انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وتعتدي على حقّ الإنسان في السكن وحرمته، وهو وصف دقيق للغاية لما تفعله السلطات تحت زعم تطوير منطقة قوز النّكاسة في مكة المكرّمة.
الهدم والإخلاء يستهدفان تفريغ الحي بالكامل من سكانه، والاستفادة من الأرض –والتي تبلغ قيمتها مليارات الريالات- لصالح مشروعات استهلاكيّة وترفيهيّة وسياحيّة، وبالتالي فإنّ ما حرّك المشروع هو رهان على قدرة الأمن على التنفيذ، والمستهدف تحصيل المليارات من وراء إزالة الحي بالكامل، وإشاعة نمط بناء لا يناسب البقعة المقدّسة أو زوارها.
وكان أمام الحكومة السعودية، وولي العهد الذي يتبنّى هذه النوعيّة من مشروعات التطوير الصادم، أن يقتدي بقصة الطفل ريان، ويقتنص فرصة أنّ المشروع سيجري في منطقة تهمّ مئات الملايين من البشر، بأفكار بسيطة –وغير مكلفة أصلًا- كطرح مسابقة لتصميم جديد للحي، يرعي عودة سكّانه بعد تطويره، أو إنشاء موقع تفاعلي للتّصويت لأفضل شكل وتصور للتطوير المقترح.
ببضعة خطوات، لا تحتاج سوى لخيال متواضع، ولا تتكلّف عشر ما سينفق على الاستعانة ببيوت الاستشارات الأجنبية، ولا يسبّب حنق عام شامل بين مواطني مكّة وسكّانها، كان من الممكن أن يكون مشروع تطوير مكّة المكرمة هو الحدث المسيطر على فضاء التواصل الاجتماعي والإعلام العربي لأسابيع طويلة وشهور، تعزّز من صورة المملكة، وتمنح دفعة مطلوبة للتّغييرات التي تضرب جنباتها، ويُعيد رسم صورة الدولة الرّاعية للمقدّسات الإسلامية.
كان من الممكن أن يتحوّل الحديث عن تهجير وإخلاء قسري في مكّة إلى حديث عن منجز حقيقي وملموس للنّظام السعودي كلّه، لكن الإدارة التي تقدّس الغباء والعنف قرّرت أن تضيفها إلى كشف حساب طويل من الأزمات المصطنعة، وتعمّق الشّرخ الواضح في المجتمع السعودي، وتترك آثارها الفادحة على المستقبل، وتشيع جوًا ثقيلًا من المرارة بين طوائف المجتمع، وتستمر بجانب غيرها من مشاكل في إضافة فوائد الخطايا إلى تكاليفها الضّخمة مركّبة ومضاعفة، وتصبغ التراب الوطني بالصراعات والثأر، والذي يجلبه بالتأكيد شعور الظلم والعجز أمام سلطة غاشِمة.